تعتبر الروائية نرمين الخنسا من القلائل على مستوى العالم العربي التي أدخلت معظم رواياتها في المناهج التعليمية سواء المدارس الخاصة أو الرسمية، كما اختارتها الجامعة اللبنانية الأمريكية، ضمن لائحة النساء المميزات في لبنان اعترافاً بدورها البارز والفاعل في الحراك الثقافي، وصفت نفسها في حوار سابق انها تنتمي إلى كل فضاء حر خارج عن مسار العنف والتطرف والتمذهب، وتقول مؤلفة "هذيان الذاكرة" و"نصيبك في الجنة" والرواية الاخيرة "شخص أخر" انا أؤمن بالإنسان وبحرية الفرد والفكر والتعبير عن الذات كما تحلم بسلام دائم يغطي الأرض ووضع حد لمعاناة الشعوب التي ترزح تحت وطأة الجوع والفقر والعوز، تكشف لنا خلال حوارنا معها عن علاقتها بالكتاب الاول حيث تقول علاقتي بالكتاب الأول، تشكلت من خلال نصوص أدبية وشعرية متعددة مختارة لكبار الأدباء اللبنانيين والعرب، ومنشورة في المنهج الدراسي المعتمد للمطالعة العربية في المرحلة الثانوية من دراستي. وكان لهذه النصوص تأثير جاذب وعميق في نفسي، خصوصاً ما كتبه مارون عبود وتوفيق يوسف عواد وايليا أبو ماضي والياس ابو شبكة وسواهم. ويمكنني القول إن كتاب المطالعة المقرر في دراستي آنذاك هو الذي فتح الباب أمامي لألج بمخيلتي وقلمي إلى دواخل التعبير عن الذات وعن الفكر، وذهب بي نحو اكتشاف موهبتي في رصد الحالات الإنسانية والاجتماعية وتوصيفها في أعمالي الروائية، بأسلوب وجداني وموضوعي صادق، لا يخلو من اللمسة الشاعرية، نظراً لتأثري بالنص القصصي والنص الشعري، في تلك المرحلة الدراسية من عمري. وإنطلاقاً من تلك الخلفية القرائية التي إكتسبْتُها، وأكملتُها مع مرور الأعوام، استطعت أن اقدّم للقارئ العربي رواياتي التي أحبَّها وتفاعلَ معها، خصوصاً أنني حاكيت فيها هواجسه وآماله وآلامه وواقعه بعمق وشفافية، فإلى الحوار: * ما الكتاب الذي أحدث تأثيراً فيك بعد قراءته؟ - كل كاتب منا على ما أعتقد، يرجع بذاكرته إلى الكتاب الذي أبهره ووسّع مداركه وأغرى مخيّلته وأغنى لغته. قد يكون الكتاب وحيدًا، وقد يكون مجلدًا مؤلفًا من أجزاء عدة. بالنسبة لي ما زالت "مقدمة" العلامة ابن خلدون هو الكتاب الذي بهرني في بدايات تأسيس خلفيتي الثقافية فتح أمامي بفصوله العلمية والاجتماعية الضخمة، عالمًا من البنى المعرفية وحفر في داخلي كثيرًا، لأنه جعلني أدرك مكانة العقل البشري في استيعاب العلوم وقراءة الوجود وسبر أغوار الطبيعة البشرية وديموغرافية المجتمعات. لقد زرع هذا المجلد الفذّ في داخلي، حبّ التوغل في النسيج الاجتماعي للشعوب والبلدان، وجعلني أهتم مع الأيام، وخصوصاً في كتابة أعمالي الروائية، إلى دور المكوَّن الاجتماعي والعمراني والعصبي من -التعصب- في حياة الشخصيات الروائية وأزمنتها وبيئاتها ومسار مَنْ حولها.. * ما نوع التأثير وهل أنت مقتنعة به وما مدى استمراره؟ - بإمكاني القول: إنّ نوع التأثير الذي تركته "مقدمة" ابن خلدون في نفسي، هو اجتماعي وفكري وإنساني، وحتى جغرافي بامتياز. لا سيّما وأنّ علم الاجتماع الذي أسسه هذا العبقري، تضمّن ميادين واسعة ومترابطة في الوقت عينه، كالعمران البشري وأثره البيئي على البشر، وتبيان مسار الدول والخلافة ومراتبها وأسباب نشوئها وسقوطها، وكالعصبية التي هي نزعة طبيعية في الناس، ولها الدور الأساس في التغييرات الجذرية التي تطرأ على العمران البدوي أو العمران الحضَري، وكذلك في حياة الدول والممالك. هذه الرؤيا بالذات أغنت قلمي، وجعلته يهتم بتعصب بعض شخصيات أعمالي الروائية، نسبةً لمذهب أو طائفة أو جهة سياسية أو اجتماعية أو طبقية وغير ذلك. ولكنْ، يهمّني أنْ أذكر تأثير العديد من الكتب الأدبية والشعرية الرائعة على ذائقتي الأدبية، إلاّ أنّ المجال لا يتّسع ههنا لتعدادها. كما أرى أنَّ الأثر يخفّ على طول المدى، خصوصًا مع تلك المروحة الكبيرة من الإصدارات التي نقرؤها في حياتنا. ولكن يبقى التوهج الأول راسخًا في العقل، لا يزول. فابن خلدون كما جاء على لسان المؤرخين" يُمَثِّل نقطة تَحَوُّلٍ في كتابة التاريخ الإنساني، وفي تأسيسه لعلم الاجتماع، لقد هزَّ الفكر الإنساني العالمي بذلك؛ إذ وضع خُطَّة جديدة وآراء جديدة، بل وضع قوانين جديدة يمكن تطبيقها، وتنسحب على كل المجتمعات البشرية، انطلاقًا من أنَّ الإنسان لا يعيش إلاَّ في مجتمع، وإذا عاش في مجتمع؛ فلا بُدَّ أن يعيش مع شعب، وإذا عاش مع شعب لا بُدَّ أن يعيش على أرض، وذلك لكي تَظَلَّ العلاقة قائمة بين هؤلاء الناس." * هل ترين أن القراءة محرك أو دافع للتغيير في وقتنا الحاضر؟ - هذا السؤال يحتمل أكثر من وجهة نظر. فبالإمكان القول إنّ عملية القراءة باتت تحرّك الفئات الشبابية لإحداث تغييرات في حياتهم المعيشية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ولكن تبقى هذه القراءة بالذات بنت التكنولوجيا. أي مصدرها وسائل التواصل الإلكتروني، الفيس البوك وتويتر وسواهما، بعيدًا عن عالم الكتاب الورقي. أمّا قراءة الكتب، فهي ما زالت في بلداننا العربية حكرًا على النخب الثقافية والكتّاب والشعراء والعاملين في الشأن الثقافي والفني معًا. من هنا فالجواب على هذا السؤال يحتاج إلى غربلة زمنية مستقبلية، كي تكون الصورة واضحة أكثر بما يتعلق بدور القراءة في التغيير. لقد اهتم العالم الحديث بالعديد من الثقافات عبر القراءة، وأطلق مبادرات من أجل التحفيز على المطالعة وبناء الوعي القرائي بكل مناحيه. أما في عالمنا العربي فما زال الكتاب قصيّاً عن الجمهور الواسع، وما زال تأثير القراءة ضعيفًا على هذا الصعيد الجماهيري، لذلك لا يمكن رصد أي بواعث محركة من قبل القراءة في مجتمعاتنا العربية، طالما هي بعيدة في معظمها عن الفعل القرائي بسبب عوائق كثيرة. ولعلّ أبرز هذه العوائق، العائق المادي؛ إذ إنّ أسعار الكتب مرتفعة بشكلٍ كبير جدًا، ممّا يحُول بين الكتاب وبين القارىء الذي يستطيع شراءه. وبالرغم من ظهور مبادرات جادة تساعد على توفير الكتب المستعملة في المكتبات الشعبية، ورغم انتشار ثقافة القراءة بين الناس. إلا أن هذه المبادرات تحتاج إلى تعميم واسع وراسخ وكبير في كل بلد عربي. لا سيما وأنّ فوائد القراءة تعود على الفرد والمجتمع معًا. فللقراءة دور كبير في تعزيز العجلة الثقافية والاقتصادية، في مؤسسات النشر والمطابع. إذْ إنّ إقبال الناس على القراءة يشجّع المطابع على العمل، إلى جانب تحفيز دُور النشر على البحث عن الكتّاب الموهوبين والجدد، وتحسين الأوضاع الاقتصاديّة لفئات كبيرة من الناس، إلى جانب تأمين فرص عملٍ جديدة خاصّةً على مستوى الخدمات الثقافية الهامة. لذلك من المهم دعم الكتاب وسوق الكتاب العربي حتى يكون بمتناول كل مواطن. الأمر الذي يساهم في ارتقاء الوعي الجماهيري والشرائح المختلفة من المجتمعات العربية. فالقراءة تساعد على تحسين نوعية الحياة، وذلك من خلال تناقل المعارف بين ثقافات الأرض، وتعزيز حوار الحضارات، لا صدام الحضارات. من هنا فإنّ القراءة هي وسيلة سفر إلى المعارف بين دول العالم. كما أنها تعتبر وسيلةً من وسائل تعزيز العقل والترويح عن النفس من خلال الانتقال إلى عوالم مكتوبة بحبر النبض، حيث يمكن قضاء أوقات معينة في قراءة الروايات الممتعة التي تقدّم فائدةً في الوقت ذاته، وتحفِّز القارىء على التّماس مع سائر الفنون الأخرى، فيميل إلى الفن المسرحي والفن السابع والفن التشكيلي، وسواها من الفنون التي يجد أثراً لها في عالم الكتاب الأدبي، خصوصًا أنّ العديد من الأعمال الروائية جرى اختيارها وتحويلها إلى أفلام كانت من روائع السينما العالمية والعربية. كما أنّ عددًا كبيرًا من النصوص الأدبية تمّ تحويلها إلى نصوص مسرحية، ونصوص تلفزيونيّة مميّزة ظلت عالقة في ذاكرة الجمهور.
مشاركة :