سقطت أنظمة الحماية الوطنية كلها في غالبية الدول أمام اندفاع سيرورة العولمة، وكجزء من ديناميكا تسريع تنقل الرأسمال والسلع والخدمات وخطوط الإنتاج والعَمالة كانعكاس أساسي لهذه السيرورة. بل تحوّل مطلب دكّ أنظمة الحماية إلى شرط أساس في سياسات المؤسسات المالية العالمية (البنك الدولي)، لمنح قروض ومساعدات للدول النامية أو المحتاجة. من هنا، اعتقاد علماء الاجتماع والسياسة أن انحساراً ما حصل في مفهوم السيادة الوطنية على ما تعنيه من حدود وضبط للحركة عبرها، حركة متأتية من العمليات الاقتصادية السريعة بما فيها تنقّل العمالة بقرارات وطنية أو من دونها. لكن يبدو أن ما فرضته بديهيات الاقتصاد المعولَم ستعيد ضبطه عمليات الإرهاب الدولي والهجرة غير الشرعية. فالإرهاب الذي ضرب فرنسا أخيراً وكاد يضرب في بلجيكا، أيقظ هواجس 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الأمنية، ودفع الحكومات منفردة أو مجتمعة إلى إعادة النظر في سياسات فتح الحدود وحرية تنقّل الأفراد والسلع والمال. الأمر لافت في أوروبا بسبب اتفاق شنغن وغيره من اتفاقات ثنائية تُتيح التنقل الحر في دول الاتحاد الأوروبي. وهو أمر يشكّل في اعتقاد علماء السياسة، إحدى الثغرات في البناء الديموقراطي الذي يُلفي ظهره مكشوفاً من مرة لمرة أمام سيف الإرهاب الذي يستغلّ الانفتاح وحرية التنقّل للانقضاض وتوجيه ضربته. بمعنى، أن إزالة الحواجز أمام حركة البضائع والخدمات توازيها الآن «حواجز» مادية أو قانونية أو إجرائية تحاول ضبط الإرهاب ومنع تنقّل عناصره أو الأموال بين مموليه ومنفّذيه. وفي موازاة الإرهاب، اتساع ظاهرة الهجرة الشرعية وغير الشرعية من الدول الأضعف أو من مناطق الحروب إلى الاقتصادات القوية والمستقرّة. وهي هجرات لا تأتي مصادفة ولا تحصل فقط بسبب وجود أسباب لها في دول المصدر، بل بسبب من معرفة المهاجرين أن هناك طلباً على هجرة الأيدي العاملة الرخيصة في الدول المستقبلة. ويبدو أن الهجرة في مستواها غير المعلن، تحصل بقانون العرض والطلب المتّصل بالأيدي العاملة، بخاصة أن الأيدي العاملة المهاجرة بسبب ضيق أو حرب، وعلى رغم ما قد تغلّف به من خطاب إنساني إغاثي، هي في العادة أيدٍ عاملة رخيصة. بل هناك جيش من المستفيدين من الهجرة الشرعية وغير الشرعية. وهم أولئك الوكلاء القانونيون (محامون مثلاً) وغير القانونيين (المهربون مثلاً) المنتشرين على طول الطريق من دول المصدر إلى دول الاستقبال، يجبون عمولاتهم من المهاجرين والهجرة. لا يُمكننا أن ننظر إلى السيرورة العالمية في باب أنظمة الحماية الوطنية من دون رؤيتها في تحوّلاتها وفي كونها تجريبية لا تسير باتجاه واحد بل وفق المتغيرات. ولا نستبعد أن تعود هذه الأنظمة بصيغة جديدة محددة وهادفة، مرة إلى ضبط الهجرة في شكل تخدم أكثر فأكثر الاقتصادات المعنية، ومرة لجهة مراقبة الحدود وتنقّل العناصر والأموال المتّصلة بالإرهاب. ليس لأن الإرهاب خطر أمني يهدد السلامة العامة فحسب، بل لأنه يشكل ضرراً اقتصادياً لا يُستهان به في كل ضربة يضربها. كذلك بالنسبة الى الهجرة الشرعية وغير الشرعية، ونرجّح أن هناك طواقم قانونية أوروبية وغير أوروبية تنكبّ الآن على إنتاج منظومات حماية تضبط الهجرة وفق احتياجات الاقتصاد وخططه الوطنية أو الإقليمية. أي أن العوامل الاقتصادية التي فرضت دك أنظمة الحماية الوطنية، ستجد في مقابلها عوامل اقتصادية تدفع باتجاه الضبط وفرض قيود على الحدود ولو بثمن تعديل اتفاقات ثنائية أو إقليمية. وستجد أيضاً قوى سياسية في كل دولة وفي كل الدول مجتمعة، تضغط باتجاه إعادة بناء أنظمة الحماية وتشديدها. إضافة إلى ما أوردناه، نجد الكثير من التغيرات المتسارعة في مجال عودة نظام العمل بتأشيرات الدخول والمرور بين العديد من الدول، بخاصة التي تعرّضت لإرهاب أو لهجرة غير شرعية. بل إن التوتّرات المتسارعة بين بعض الدول أنتجت ظاهرة عودة تأشيرات الدخول كجزء من تقييد حركة التنقل إليها من دول مُحدّدة. وهو ما حصل أخيراً بين روسيا وتركيا على خلفية التوتّر بينهما بما يتّصل بالحرب في سورية. إذاً، نستطيع تبيّن بعض الإجراءات الدولية التي تشكّل أنظمة حماية وطنية تتصل بتنقّل الأفراد وتبييض الأموال، وذلك لدوافع أمنية واقتصادية وسياسية. وهي ظاهرة تندرج في إطار الظواهر العالمية التي تشكّل محاولة لاتقاء مضارّ سيرورة العولمة أو تعديلها حماية لأمن الدول واقتصاداتها.
مشاركة :