تطور الطب في الحضارة العربية الإسلامية

  • 11/17/2022
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

لما قام البيـمـارسـتان، ولعل أقدمها من حيث الاهتمام كان الذي أنشئ في بغداد في أيام الرشيد، أصبحت مراكز لدرس الطب والتدريب فيه والاهتمام بالصيدلة وما يتركب منها وما يقدم مفردًا. وهنا أصبح التعليم والتجربة والاختبار والعمل في الطب والصيدلة وحدة عملية علمية بحيث يفيد كل العاملين فيها من التجارب والأعمال المشتركة. فالطبيب العارف بمهنته والمطلوب منه أن يعالج المرضى، كان المفروض فيه أن تكون له معرفة بالشؤون الإلهية، ذلك أن عمل الطبيب مرتبط بالمشيئة الربانية على ما يقول ابن خلدون (... اللهم إلا إن استعمل على جهة التبرك وصدق العقد الإيماني، فيكون له أثر عظيم في النفع... فهو من آثار الكلمة الإيمانية). الأطباء المسلمين لم يتعاطوا التشريح، إذ لا يجوز شرعًا تشريح جثة آدمي متوفى ولا جسم حيوان حي. وقد ظل اعتمادهم في تفهم الجسم البشري داخليًا يعتمد على ما وصلهم من اليونان غالبًا. لكن الطب العملي ـ من حيث تشخيص العلة ووصف الدواء الناجع، الذي كان أكثره من صنعهم هو الذي بلغوا فيه الذروة. وبهذه المناسبة فإن اكتشاف ابن النفيس لدورة الدم الصغرى جاء نتيجة تعليل منطقي عقلي لا بسبب تشريح. على أن طب العيون، بما في ذلك إجراء العمليات المختلفة تقدم على أيدي الأطباء العرب والمسلمين إلى درجة كبيرة. وبرع الأطباء العرب في الناحية الجراحية، على ما يتضح من كتاب التصريف لأبي القاسم الزهراوي. ومن الأدوات المستعملة في الجراحة والتي تشاهد المئات منها في المعارض والمتاحف التي تعنى بالطب الإسلامي على نحو ما رأينا في مؤسستي حدرد الطبيتين في دلهي وكراتشي وهما معنيتان بدراسة تاريخ الطب الإسلامي. ولما كان ازدهار الطب والصيدلة في الحضارة العربية الإسلامية بدا على أوضح شكل في البيمارستانات (المستشفيات، والكلمة فارسية الأصل) فإننا سنوجه اهتمامنا إلى هذه الناحية العملية الإنسانية في الطب. يروى أن الأمويين بنوا مستشفى في دمشق. ومع أن هذه الرواية لم تتأكد حتى الآن، فإنه ليس ما يمنع مثل ذلك العمل عمليًا. فالشام والجزيرة وأدسا (الرها) كانت فيها تقاليد طبية قديمة. ولكن الثابت أن أول مستشفى بني كان في أيام الرشيد في بغداد. إلا أن المستشفى الذي كان زينة بغداد هو الذي بناه عضد الدولة البويهي (338 ـ 372هـ/ 949 ـ 983م). وقد أعيد بناء ما تهدم مع الأيام بحيث إن ابن جبير الذي زار بغداد في أواخر القرن السادس/ الثاني عشر, قال عنه: (فيها البيمارستان الشهير ببغداد، وهو على دجلة وتتفقده الأطباء كل يوم اثنين وخميس ويطالعون أحوال المرضى به ويرتبون لهم أخذ ما يحتاجون إليه، وبين أيديهم قَوَمة يتناولون طبخ الأدوية والأغذية، وهو قصر كبير فيه المقاصير والبيوت وجميع مرافق المساكن الملوكية، والماء يدخل إليه من دجلة). وابن جبير نفسه وصف البيمارستان الذي رآه في القاهرة أثناء زيارته لها ووصفه وصفًا أطول، قال: (المارستان الذي بمدينة القاهرة وهو قصر من القصور الرائقة حسنًا واتساعًا. أبرزه (السلطان صلاح الدين) لهذه الفصيلة تأجرًا واحتسابًا، وعين له قيمًا من أهل المعرفة وضع لديه خزائن العقاقير، ومكنه من استعمال الأشربة وإقامتها على اختلاف أنواعها. ووضعت في مقاصر ذلك القصر أسرة يتخذها المرضى مضاجع كاملة الكسي. وبين يدي ذلك القيم خدمة يتكفّلون تفقد أحوال المرضى بكرة وعشية، فيقابلون من الأغذية والأشربة ما يليق بهم. وبإزاء هذا الموضع موضع مقتطع للنساء المرضى ولهّن من يكفلهنّ. ويتصل بالموضعين المذكورين موضع آخر متسع الفناء فيه مقاصير عليها شبابيك الحديد، اتخذت مجالس للمجانين، ولهم أيضًا من يتفقد أحوالهم ويقابلهم بما يصلح لها. والسلطان يتطلع لهذه الأحوال كلها بالبحث والسؤال، ويؤكد بالاعتناء بها والمثابرة عليها غاية التأكيد). في دمشق، بين سنتي 545 هـ/ 1150م و906 هـ/ 1500م، بنيت ستة بيمارستانات. كان اثنان منها وهما من بناء نور الدين زنكي بدأ العمل بهما لما زار المدينة ابن جبير 580هـ/ 1184م. وواحد من هذين كان البيمارستان النوري الجديد الذي وسّع فيما بعد (القرن السابع/ الثالث عشر)، وظل موضع اهتمام الزوار والمؤرخين حتى القرن التاسع هـ/ الخامس عشر. م. وكانت البيمارستانات الأربعة الباقية تقوم قرب باب البريد وفي الأوسط وفي الصالحية وفي النيرب. كان اثنان من البيمارستانات الستة قد بناهما جماعة من أثرياء المدينة. وقد ترك لهما هؤلاء من الأوقاف ما يكون إيراده كافيًا لصيانتهما وضمان سيرهما، على ما كان يحدث للبيمارستانات التي يبنيها الحكام. وعلى سبيل المثال فإن البيمارستان القمري في الصالحية، وهو من إنشاء الأمير سيف الدين القميري (المتوفى 655هـ/ 1257م)، كان ينتفع بريع قريتين وأملاك أخرى يبلغ مجموعها قريتين ونصف القرية ومنطقة فيها مطاحن وخمسة وثلاثون حانوتًا وأسطبل وخانان وغير ذلك. كان الغالب على البيمارستانات أن تكون مقسومة إلى موضعين: الواحد للرجال والآخر للنساء، وكان هناك مقاصير للجراحة وأخرى للأمراض الداخلية وسواها لأمراض العين. وكان للمجانين مقاصير مقتطعة منه. وكان الأطباء يشرفون على المقاصير ويخبرون الناظر الذي كان يعين لمثل هذا المنصب بعد تدبر دقيق للأمر. وكان الناظر إذا ولي أمر البيمارستان تلقى الأوامر والنصح في كيفية معاملة المرضى من رؤسائه ومن الأطباء (يوميا). ولم يكن من الضروري أن يكون الناظر طبيبًا، فقد كان المطلوب أن يتمتع بمقدرة إدارية ومناقب خلقية. أما الحذق الطبي فمتروك للأطباء. وكانت ثمة مقصورة كبيرة تحفظ فيها الأدوية على اختلاف أنواعها، يعهد بها إلى صيدلي خبير بمزج المفردات عندما يطلب منه ذلك. وكانت للبيمارستان القميري هذا عيادة خارجية تفتح للجمهور يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، وكان المرضى يعطون الأدوية مجانًا. وقد ألحـــق بالبيمارســتان مطـــبخ لإعداد الأطعمة العادية للموظفين والأطباء والأطعمة الخاصة بالمرضى. وكان هناك قسـم للمجانين وبذلك يتم البناء المجمع. وكان القائمون على البيمارستان فيهم طبيب وكحال (للعيون) وصيدلي وممرضون وممرضات وخدم، وعلى رأس هؤلاء الناظر. ومن حيث إن تدريس الطب لم يكن يخضع لرقابة الدولة، شأن المدارس الأخرى، فقد كان يتمتع بكثير من الحرية. وقد عرف أن مدرسي الطب في البيمارستان النوري قد وضعوا ستة وثلاثين كتابًا في الطب ـ وهو عدد ضخم ينتجه معهد واحد! وكان ابن علي الدخوار أحد كبار المدرسين والأطباء، كما كان يعلّم الطب في بيته. ولما توفي أوصى ببيته ليستعمل مدرسة للطب، مع وقفية كبيرة للإنفاق على المدرّس ومساعديه. وهذه هي التي عرفت باسم المدرسة الدخوارية، والتي كانت لا تزال قائمة على تعليم الطب في القرن الثامن. هـ/ القرن الرابع عشر.م. هذا هو الطب العملي الذي ميز تطور الطب في الحضارة العربية الإسلامية، فقبل ذلك، خاصة عند اليونان، كان ثمة تنظير للطب وفلسفة فيه، وقد عرف الأطباء المسلمون هذا الأمر لما نقلت كتب اليونان إلى العربية. لكن المعرفة الطبية والتجربة والاختبار التي كانت متأصلة في المنطقة قبل الفتوح العربية وقبل الترجمة المذكورة، كانت أساسًا قويًا لما تم على أيدي أطباء العالم الإسلامي فيما بعد. ويشهد كثيرون ممن أرخوا لتطور الطب والصيدلة أن خدمة الطبيب العربي، كانت ممتازة في حقل التجارب وفي الأقراباذين. ونحن لم نول تاريخ الطب وعمل الطبيب في الحضارة العربية الإسلامية حقه بعد، فيما قطع مؤرخوه من أهل الغرب خطوات واسعة. رحم الله هؤلاء الأطباء والصيادلة، لقد عالجوا مرضاهم بحرارة الإيمان والرغبة في عمل الخير، لكنهم قدموا للبشرية خدمة جلّى! 2000* * مؤرخ وكاتب فلسطيني/ لبناني «1907 - 2006».

مشاركة :