عد موقع الربذة في منطقة المدينة المنورة أحد أهم المواقع الأثرية، التي تم العثور فيها على معالم معمارية متنوعة ومواد أثرية وصناعات تبرز تطور الحضارة الإسلامية في عصور الخلفاء الراشدين والدولتين الأموية والعباسية. وكانت الربذة من الحواضر الإسلامية الكبيرة في قلب جزيرة العرب، وشكلت مركزاً اقتصادياً وثقافياً مهماً ومحطة رئيسة على طريق الحج من العراق إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة. وإذا كانت الربذة انتهت بوصفها مدينة إسلامية فإن آثارها أمدت الباحثين بمعلومات وفيرة عن الحضارة الإسلامية الباكرة في قلب الجزيرة العربية، كما أن التراث المعماري للربذة يوضح صورة جلية نستدل منها طبيعة الحضارة الإسلامية بمفهومها الشامل في العصر الإسلامي الباكر في الجزيرة العربية عامة، والحجاز ووسط الجزيرة. ويشير مستشار الرئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني للتراث الدكتور سعد الراشد، الذي يعد من أوائل الباحثين في الموقع، إلى أن الربذة ارتبطت تاريخياً بعصر الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الخلفاء الراشدين، ثم الفترة الأموية حتى منتصف الخلافة العباسية. ويقول الدكتور الراشد في بحث له عن الربذة: «كانت الربذة من الأماكن المحببة إلى نفوس الأمراء والخلفاء من بني العباس للاستراحة والإقامة فيها، ومن هؤلاء أبوجعفر المنصور والمهدي وهارون الرشيد. وأجرى أولئك كثيراً من الإصلاحات والمشاريع الخيرية على طرق الحج بين العراق والحرمين الشريفين، وحذا حذوهم في تقديم الأعمال الخيرية الأمراء والوزراء والقادة والتجار. وفي ضوء المعلومات المتناثرة عند الجغرافيين والرحالة المسلمين عن الربذة، أنها كانت من أحسن المنازل على طريق الحج. وقد امتازت قصور ومنازل الربذة بأسلوب معماري ونسيج هندسي مميز، فهي رباعية التخطيط، ومتعامدة مع القبلة، وبنيت الغرف الداخلية على شكل وحدات يجمعها فناء داخلي أو ساحة، وفيها مرافق الخدمات من أفران للطبخ ومستودعات حفظ المياه ومخازن الحبوب، وغير ذلك من المرافق الخدمية وأبرزت الحفائر الأثرية الكشف عن مسجدين رئيسين، هما المسجد الجامع، وهذا المسجد كشف عنه في الجهة الغربية من الربذة، ولعل هذا المسجد هو مسجد أبي ذر الغفاري، الذي اختطه بنفسه عندما قدم إلى الربذة، وذكرت المصادر أن بالربذة مسجدين؛ أحدهما مسجد أبي ذر، والآخر مسجد المنطقة السكنية. لكن أبرز ما تمتاز به الربذة هو تصميم مستودعات لحفظ المياه (خزانات) بنيت تحت مستوى أرضيات الغرف والساحات الداخلية والممرات، وفي كل الوحدات السكنية، وبنيت هذه الخزانات بطريقة هندسية بديعة. وأكدت الدراسات لهذه المعثورات أن الربذة كانت على درجة عالية من الحيوية من حيث تنوع الصناعات، وخصوصاً الأدوات الفخارية والخزفية والحجرية والزجاجية، إذ تم العثور على أوان كاملة من الجرار والأطباق والأكواب والقوارير، أما الكسر من مختلف الأواني فهي كثيرة ومتنوعة، وعليها عناصر زخرفية بديعة تدل على دقة الصناعات وخبرة الصناع ومقدرتهم وملكتهم في الحرف والصناعات، وأعطت هذه المكتشفات دلالة واضحة عن الفترة الزمنية التي شهدتها الربذة خلال ثلاثة قرون وأكثر من تاريخها، ومن هذه المعثورات ما هو مصنوع محليا في الربذة ذاتها، وتأتي القطع النقدية المكتشفة لتعطي دلالة واضحة على الثراء الاقتصادي للربذة. وتراوح السنوات التي تعود إليها المسكوكات المكتشفة بين عصر صدر الإسلام والفترة الأموية والخلافة العباسية في عصورها الزاهية، ومن الخلفاء الذين وردت أسماؤهم على النقود المكتشفة، أو تتوافق تواريخ سك العملة مع فترات حكمهم، الخلفاء: الوليد بن عبدالملك، وأبوجعفر المنصور، وهارون الرشيد، والمعتضد بالله، وغيرهم.
مشاركة :