كغيري من المقيمين في مملكة البحرين الشقيقة تابعت الأجواء التي سبقت إجراء الانتخابات النيابية والبلدية وكذلك السلوك التصويتي للمواطنين، فضلاً عن الإجراءات الحكومية التي تم اتخاذها لضمان سلامة ونزاهة العملية الانتخابية وهي عديدة، إلا أنه بالنظر إلى محدودية مساحة المقال فسوف يكون جل تركيزي على الرسائل التي أسفرت عنها تلك الانتخابات، أولها: حرص العديد من الأسر على اصطحاب أطفالهم خلال عملية التصويت، إذ تصادف مروري بجوار إحدى لجان الاقتراع وشاهدت أطفالا صغارا يحملون علم مملكة البحرين ربما لا يدركون في ذلك العمر الصغير ماهية تلك المناسبة تحديداً ولكن بلا شك لديهم إحساس بأن البحرين تحتفل بحدث سار لابد وأن يشارك فيه الجميع كبارًا وصغارًا، وستظل تلك الذكرى عالقة في أذهان هؤلاء الصغار لأعوام قادمة ليست بالقليلة، وثانيها: قناعة المجتمع البحريني بكل فئاته بأن المشاركة في الحياة السياسية بمرجعيتها في ميثاق العمل الوطني ودستور مملكة البحرين الصادر عام 2002 وتعديلاته اللاحقة هي السبيل الوحيد لتحسين الأداء النيابي والبلدي بما يحقق طموحات وآمال المواطنين وقد وجد ذلك صداه في نسبة مشاركة غير مسبوقة بلغت 73,18% في الجولة الأولى من الانتخابات والتي لم تسفر سوى عن حسم 6 مقاعد نيابية و7 مقاعد بلدية والإعادة على معظم المقاعد بما يعنيه ذلك من احتدام المنافسة وحرص المجتمع البحريني على الاختيار الصحيح، وثالثها: وجود تمايز ولو بشكل نسبي بين برامج المرشحين، صحيح أن معظم اللافتات الانتخابية حملت عبارات عامة ولكن لوحظ أن بعض المرشحين أشاروا صراحة إلى تفاصيل برامجهم الانتخابية والتي ارتبط بعضها بما رأوه من أولويات لدى المواطنين، وهي القضايا التي حرص زملائي في إدارة استطلاعات الرأي بمركز دراسات تضمينها ضمن استطلاع للرأي تم إجراؤه قبيل الانتخابات واستهدف التعرف على أهمية المشاركة في تلك الانتخابات والقضايا التي يجب أن تكون محل اهتمام النواب بالإضافة إلى رؤية هؤلاء الناخبين للعلاقة مع النواب ما بعد إعلان النتائج، ولعل الأمر اللافت في ذلك الاستطلاع الذي تم الإعداد له بشكل جيد سواء في نوعية الأسئلة أو كيفية الوصول إلى عينة الاستطلاع هو تقارب التوقعات مع النتائج وخاصة بشأن حرص المواطنين على المشاركة كواجب وطني الأمر الذي يؤكد مجدداً تنامي أهمية استطلاعات الرأي التي تعكس نبض الشارع تجاه قضايا العمل الوطني. وإذا كانت تلك هي الرسائل المجتمعية، فماذا عن الرسائل الحكومية؟ أولى تلك الرسائل هي حرص مملكة البحرين على إجراء الانتخابات السادسة منذ عام 2002 بالإضافة إلى الانتخابات التكميلية عام 2011 يعني ترسيخ المسار المؤسسي للمشاركة السياسية على نحو مغاير لما دأبت عليه بعض الدول الأخرى التي واجهت تحديات وكان خيارها هو تأجيل الانتخابات بيد أن مملكة البحرين مضت في سبيلها نحو مسيرة التحديث والتنمية، والرسالة الثانية هي الحرص على توفير كل الأجواء اللازمة لنجاح العملية الانتخابية لضمان حياديتها وتعبيرها عن خيارات وقناعات الناخب البحريني، أما الرسالة الثالثة فهي القناعة بأهمية العمل التشريعي المنوط به وضع كل التشريعات اللازمة لتنفيذ جميع الخطط التنموية للمملكة في ظل التحديات والتغيرات المتلاحقة على المستويين الإقليمي والعالمي والتي تتطلب التعامل معها من خلال تكامل العمل التنفيذي والتشريعي. ومع أهمية ما سبق، ففي تقديري أن هناك رسائل ثلاث أخرى موجهة إلى المجتمع الدولي وأولها: أن تزامن إجراء الانتخابات النيابية والبلدية مع فعاليات أخرى كبرى ابتداءً بزيارة قداسة البابا فرنسيس بابا الفاتيكان وفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر للمملكة للمشاركة في ملتقى البحرين للحوار «الشرق والغرب من أجل التعايش الإنساني» ومروراً بمعرض البحرين الدولي للطيران في نسخته السادسة وانتهاءً بحوار المنامة الأمني الثامن عشر يؤكد مجدداً قدرة المملكة على تنظيم وإدارة كل الفعاليات بجميع مستوياتها ومشاركيها من خلال الأداء المتميز لمؤسسات الدولة، وثانيها: أنه في ظل إثارة بعض المؤسسات الغربية لقضايا ذات صلة بالتحديث السياسي سواء في مملكة البحرين أو في دول الخليج العربي بوجه عام فإن تلك الانتخابات تعد رسالة واضحة إلى مراكز الفكر الغربي التي تثير مثل تلك القضايا للتقييم العلمي ضمن خصوصية خليجية، وأن حق المشاركة السياسية الذي تحرص عليه مملكة البحرين يأتي في مقدمة حقوق الإنسان ضمن قضايا أخرى عديدة، أما الرسالة الثالثة والأخيرة فهي أنه بالرغم من قصر عمر التجربة البرلمانية في البحرين مقارنة بتاريخ تجارب مماثلة ممتدة في دول أخرى إلا أنها جديرة بالدراسة ضمن خصوصية بحرينية خليجية. الحدث مليء بالمشاهد التي تحتاج إلى العديد من الكتابات ولكن مجملها تلك الصورة الحضارية لعملية التصويت واصطفاف مندوبي المرشحين على جانبي الطرق المؤدية لمراكز الاقتراع على مدى اثنتي عشرة ساعة متصلة وتقديم برامج المرشحين للناخبين بشكل منظم ربما للذين لم تكن لديهم الفرصة للاطلاع على تلك البرامج، يعكس بعداً مجتمعياً آخراً جديرا بالاهتمام بما يعني أن التصويت في هذا الاتجاه أو ذاك يرتكز على قناعة الناخب بالأفضل بما ينعكس بلا شك على قوة السلطة التشريعية ذاتها. ولعل الرسالة الأهم وذات الطابع الاستراتيجي هي أنه في الوقت الذي شهد فيه الموقع الإلكتروني لمجلس النواب عملية اختراق إلكتروني تكراراً لرسائل تشكيك مشابهة شهدتها انتخابات عام 2018 واستهدفت عرقلة إجراء تلك الانتخابات فإن رد المجتمع البحريني كان حاسما بعزم وإصرار ليس فقط على المشاركة وإنما بنسبة غير مسبوقة. وفي تصوري أن إجراء تلك الانتخابات بهذا المستوى من التنظيم وتلك المشاركة المتميزة حدث يتعين استثماره بشكل يتناسب مع أهميته سواء على المستوى الإعلامي أو الفكري استناداً على أرقام وواقع لا تخطئها العين ضمن مسار العمل الوطني الذي يعلي من أهمية ومحورية المؤسسات كآليات تجسد مشاركة أبناء الوطن في صياغة وتنفيذ الطموحات المستقبلية. أعداد المرشحين وانتماءاتهم وحظوظ المرأة في الفوز ونسب التغيير في البرلمان الجديد جميعها قضايا جديرة بالاهتمام والدراسة – ربما يتزامن نشر هذا المقال مع إعلان النتائج النهائية للانتخابات- إلا أنه وفقاً لنتائج الجولة الأولى والتي كانت منطلقاً لأفكار هذا المقال فإن تلك المؤشرات وكذلك النتائج النهائية تتضافر معاً لتعكس حقيقة مؤداها حيوية المجتمع البحريني وقدرته على اختيار ممثليه سواء في المجلس النيابي أو البلدي بما يتناسب مع طبيعة القضايا الوطنية الراهنة، فضلاً عن الواقع الإقليمي والعالمي سريع التحول. ومجمل القول إن الانتخابات النيابية والبلدية وإن كانت حدثًا اعتياديا فإنه تم إجراؤه في توقيت ذي دلالات مهمة لمملكة البحرين التي تؤكد مجدداً المضي قدماً في تعزيز ودعم المؤسسة التشريعية لتنهض بالدور المنوط بها. { مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات»
مشاركة :