هو أحد أكثر الفنانين تأثيراً في الحركة التشكيلية العالمية، خلق عبر أساليبه وتقنياته المبتكرة أسلوبا ثوريا أسهم في تحرير الفن التشكيلي من قوالبه الجاهزة وأطره الأكاديمية، ولم يكن ليحقق ذلك إلا بوجودها ومساعدتها، فهي الملهمة والزوجة والصديقة التي ضحت بكل شيء حتى يصل فنه إلى تلك المكانة التي حفرت اسمه في تاريخ الفن، هما جاكسون بولوك ولي كراسنر رائدا التعبيرية التجريدية. ولد جاكسون بولوك عام 1912 في مدينة كودي بولاية وايومينغ الأمريكية، وهو الابن الأصغر لعائلة فقيرة مؤلفة من خمسة أبناء، عاش طفولة تتسم بالبؤس والمعاناة، نتيجة الفاقة الشديدة وهجر الأب، وقسوة التربية التي تركته مريضاً بالاكتئاب طوال حياته، وصعب المراس والتعامل مع الناس. وفي عام 1930 انتقل بولوك إلى نيويورك للعيش برفقة أخيه، ودراسة الفنون والرسم على يد أهم الفنانين في ذلك الوقت، والتقى بكراسنر للمرة الأولى في عام 1942 خلال معرضه في غاليري مكميلان، حيث أبدت كراسنر تقديرها وإعجابها بلوحاته قائلة: أنت لا ترسم مثل الآخرين، ليزورها بعد ذلك في مرسمها و يفاجأ بلوحاتها المذهلة وقدراتها الفنية الفذة. وعلى الرغم من مشاكل إدمانه الكحولي وتردي حالته النفسية، إلا أن كراسنر توافق على الزواج منه عام 1945، لتبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة في حياة بولوك، تكون فيها كراسنر ملاكه المنقذ وأهم نجاحاته الشخصية و الفنية معاً. وتقوم بمساعدته ليحصل على دعم لفنّه و يخرج من مرضه و يعود إلى الحياة، فتدعو وكيل مؤسسة فنية اسمه هوارد باتزل الذي يعجب بأعمال بولوك، حيث تتكفل هذه المؤسسة بتغطية تكاليف معارضه ونشر أعماله على أوسع نطاق، لتكون هذه المرحلة الخيط الأول الذي يقود إلى الاعتراف بفنه، كما ضحت كراسنر بإنتاجها الفني للحفاظ على حياتها العائلية ومساعدة جاكسون في التخلص من الاكتئاب واليأس والإدمان على الكحول وزيادة إنتاجيته. قام الزوجان بولوك وكراسنر بتأسيس استوديو مشترك في لونج أيلاند في نيويورك، وأنتجا فيه العديد من الأعمال والتي كانت بحق باكورة عمل فني منظم قاد إلى طفرة كبيرة في الفن التشكيلي الأمريكي، حيث ابتكر بولوك تقنية الرسم بالتنقيط، وطرح مفهومه في علاقة حركة جسد الفنان مع الفضاء المحيط لتكوين اللوحة، بعيدا عن أي شكل من التحضير المسبق، ويقول بولوك في هذا الصدد: حين أكون منهمكاً في عملي التصويري لا أعي ما أفعله، لكني بعد مدة من التروي والتأمل أرى ما صرت إليه، وإنني لا أخفق إلا حين أفقد صلتي باللوحة. ينقسم إنتاج بولوك إلى مرحلتين، الأولى بين عامي 1942 و1946، وفيها تأثر بأعمال بيكاسو وميرو والمصورين السرياليين، إضافة إلى تأثره بجداريات الفنانين المكسيكيين مثل أورزوكو وريفيرا، وينتمي أسلوبه في هذه المرحلة إلى الاتجاه التعبيري، وقد عالج فيه موضوعات أسطورية، مستخدماً الرموز والأجزاء التشريحية في جو يسيطر عليه الغموض. والمرحلة الثانية بدأت سنة 1947، حيث أنجز فيها مجموعة من اللوحات التي تمثل ما يسمى بالتصوير الحركي، وهو أن يصير سطح اللوحة مجال استقبال لما تخطه يد الفنان من حركات سريعة بأدواته الخاصة ومواده، فبدا تأثره واضحاً في هذه المرحلة بالحركة السريالية ممثلة في الفرنسي أندريه ماسون، وهي الإحساس بدرامية الوجود والاعتماد على آلية المصادفة في تشكيل اللوحة. وعلى رغم من تأثره هذا، فإن هدف بولوك في الممارسة الفنية يختلف جذريا عن السرياليين الأوروبيين، فلم يكن همه الوصول إلى فن غريب برؤاه وعالمه الخاص، بل التعبير عن مشاعر آنية، وقد أراد من اعتماده على اللاوعي والمصادفة التلقائية وعلى حركات جسمه أثناء العمل وخاصة سرعة حركة يده، التوصل إلى إشارات تشكيلية لا علاقة لها بالإدراك البصري للأشياء المرئية، فبولوك لا يهتم إلا بما يجدُّ في أثناء العمل اعتماداً على المادة التي بين يديه وطريقة استخدامه لها، متخطيا بذلك مفهوم اللوحة التقليدية وأسسها، فيقول: إنني لا أبدأ من مسودات أو تخطيطات مسبقة، لأن لوحاتي تولد مباشرة، أريد أن أعبر عن مشاعري أكثر مما أريد أن أرسم هذه المشاعر، وعندما أرسم تتكون لدي انطباعات عامة عما أفعل، وهكذا أستطيع أن أسيطر على تدفق اللوحة، فليس ثمة مصادفة وإنما يبدو الأمر كما لو أنه ليس هناك بداية أو نهاية. يعد بولوك من الشخصيات البارزة في الفن الحديث، كما أن لوحاته التي نفذها بتقنية رش الدهان قد أسهمت في تطوير التعبيرية التجريدية، وقد تناول النقاد أعماله وأبرزوا دوره في الفن الأمريكي المعاصر، ومن هؤلاء هارولد روزنبرغ الذي عده مؤسس التصوير الحركي.
مشاركة :