بعد عامين من جائحة كورونا، انعقدت قمة العشرين في جزيرة «بالي»، الإندونيسية يومي 15 و16 نوفمبر، في ظل أزمة يمر بها الاقتصاد العالمي، نتيجة أسباب عديدة يأتي في مقدمتها الحرب الروسية الأوكرانية، وتداعياتها على دول العالم، وما تسببت فيه من أزمات طاقة وغذاء وتضخم، إضافة إلى التوتر بين الولايات المتحدة والصين بسبب تايوان. وتتسم المجموعة التي تأسست عام 1999، بأنها تضم إلى جانب دول العالم المتقدمة دولا نامية، حيث تضم (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، كندا، روسيا، الصين، البرازيل، الأرجنتين، المكسيك، أستراليا، الهند، كوريا الجنوبية، تركيا، السعودية، جنوب إفريقيا، إندونيسيا، الاتحاد الأوروبي). وتمثل هذه الدول معًا 90% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، و80% من حجم التجارة الدولية، وثلثي سكان العالم، وأكثر من نصف مساحة الأرض، ما يؤهلها لأن تكون مجلس إدارة شؤون العالم، وتتسم بدرجة ديمقراطية أكبر، وتداول أوسع للقضايا الاقتصادية والمالية الدولية، لكنها بخلاف الأمم المتحدة، لا تصدر قرارات، وغاية ما تصل إليه توصيات يتوافق عليها الأعضاء، وإلى جانب قادة دول الأعضاء، فإنه يشارك في أعمالها واجتماعاتها وزراء المالية والخارجية ومحافظو البنوك المركزية من هذه الدول. وإذ جاء انعقاد هذه القمة، مواكبًا لانعقاد «مؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية للمناخ»، في نسخته الـ«27» بشرم الشيخ، المصرية، مع تخوف دول العالم من احتمالية زيادة درجة احترار كوكب الأرض فوق 1.5 درجة مئوية، وما يؤدي إليه ذلك من كوارث للكثير من دول العالم، ومواكبًا في نفس الوقت لأزمات الطاقة والغذاء والتضخم؛ فإنه من الطبيعي أن تهيمن هذه المسائل على جدول أعمال المجموعة، حيث أكد البيان الختامي الصادر في 16 نوفمبر، مواصلة الجهود لمنع زيادة الاحترار فوق النسبة المحددة عالميا، فيما أدان الحرب الأوكرانية، مؤكدًا أن استخدام الأسلحة النووية، أو التهديد بهذا الاستخدام، غير مقبول، مشيرا إلى تداعياتها على الاقتصاد العالمي، وغياب الالتزام بالقانون الدولي. وفي مواجهة أزمة الغذاء، رحب البيان بمبادرة تصدير الحبوب عبر البحر الأسود وأهمية تنفيذها واستمرارها، وعدم عرقلتها، وأوجب على الدول الأعضاء اتخاذ إجراءات عاجلة لمنع الجوع، وبناء سلاسل توريد الغذاء. وفي محاولة لحل أزمة التضخم، دعم السياسة النقدية المتشددة. وفيما تعني هذه السياسة رفع أسعار الفائدة لكبح جماح التضخم، فإنها قد تسببت في ارتفاع كبير لسعر الدولار الأمريكي مقابل العملات الأخرى، وهو ما اعترف به البيان، حيث ذكر أن أسعار الكثير من العملات قد تحركت بشكل كبير هذا العام. ولأن من تداعيات رفع أسعار الفائدة الأمريكية، وسير البنوك المركزية في دول العالم في نفس الطريق، هو انخفاض الطلب على الأموال للاستثمار، وارتفاع عبء سداد الديون في الأسواق الناشئة؛ فقد حث البيان توجه البنوك المركزية في الدول الأعضاء، نحو التقييم المناسب لوتيرة تشديد السياسة النقدية بطريقة واضحة. وفي حين أن مجموعة «أوبك بلس»، كانت قبل هذه القمة قد خفضت إنتاجها، لموازنة معروض الطاقة مع الطلب عليها، فقد شدد البيان على الحاجة إلى ضمان أن الطلب على الطاقة يتناسب مع إمدادات الطاقة معقولة التكلفة، في وقت يعيش فيه العالم حالة من تقلبات أسعار الطاقة والأسواق، مؤكدا ضرورة تنويع أنظمة الطاقة، وتعزيز أمنها، واستقرار أسواقها، من خلال تسريع وضمان الانتقال إلى طاقة نظيفة ومستدامة وميسورة التكلفة، فضلا عن مزيد من الاستثمار المستدام. وحتى تخرج القمة بهذه النتائج، فقد تجنبت الخلافات السياسية، وعلى رأسها محاولات إدانة روسيا وعزلها، كما بدا واضحا التوافق بين الرئيس الأمريكي «جو بايدن»، ونظيره الصيني «شي جين بيانج»، والحيلولة دون تحول المنافسة بينهما إلى صراع. وفي اليوم السابق لاجتماع قمة العشرين، عُقدت محادثات مهمة بين الرئيسين مهدت إلى تحسين العلاقات، التي وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ عقود في أول لقاء شخصي بينهما، منذ أن سار «بايدن»، رئيسًا للولايات المتحدة، حيث صرح الأخير بأنه ملتزم بالحفاظ على بقاء خطوط الاتصال مفتوحة على المستويين الشخصي والحكومي مع بكين. واستمرارًا لهذه الحجة، كان «التعاون بدلاً من الصراع»، هو النهج الذي دعت إليه إندونيسيا مع رئاستها للقمة، ووضعت شعارًا لها «نتعافى معًا.. نتعافى أقوى»، فيما حددت لجدول أعمالها ثلاث قضايا رئيسية، هي: «النظام الصحي العالمي»، «التحول الرقمي للاقتصاد العالمي»، «قضايا تحول الطاقة». لكن الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في فبراير الماضي، أضافت عدة قضايا وملفات على طاولة القمة، شملت أزمات الطاقة، والغذاء، والتضخم، وتباطؤ معدلات النمو، وتأثير كل ذلك في مستوى المعيشة لملايين الأشخاص حول العالم. ولمعالجة هذه القضايا الطارئة بحلول فعالة يمكن اتباعها، أعلنت «المجموعة»، خلال اجتماع وزراء المالية في يوليو الماضي، استنكارها الحرب في أوكرانيا، وتسببها في ازدياد أسعار الغذاء والطاقة، وأن التعافي الاقتصادي بعد كورونا قد تعرقل. وفي اجتماع أكتوبر، أكدت الدول الأعضاء الالتزام بسياسات مالية مخططة جيدًا لدعم التعافي المستدام والتأقلم مع الآثار الاقتصادية للحرب، والسعي إلى خفض معدلات التضخم التي تعصف بغالبية دول العالم. وبحسب بيانات «المنتدى الاقتصادي العالمي»، يعد التضخم أكبر المخاوف والتهديدات، التي تواجه اقتصادات دول المجموعة خلال العامين المقبلين، حيث وصل إلى معدلات غير مسبوقة، فبلغ 8.7% في الولايات المتحدة، و10% في بريطانيا و5.6% في فرنسا و10.7% في الهند و5.9% في إندونيسيا، ما جعل «صندوق النقد الدولي»، يدعو إلى «تعاون عالمي مثمر تقوده دول هذه المجموعة؛ لتجنب الأزمات المحتملة، وتعزيز النمو والإنتاجية، وتخفيف حدة ارتفاع تكلفة المعيشة»، فيما طلب من الدول الغنية، المبادرة بمنح مساعدات عاجلة للدول المحتاجة من خلال التمويل الثنائي أو المتعدد عن طريق برنامج الأغذية العالمي. وعلى الرغم من أن نتائج اجتماعات القمة وبيانها الختامي تدعو إلى التفاؤل، لكن الأهم من ذلك هي آليات تنفيذها على الأرض. وعلى خلاف أزمة الاقتصاد العالمي في 2008 و2009، حيث كان هناك توافق بين الاقتصادات الكبرى، أسفر عن تنفيذ خطة لإعادة رسملة البنوك المتدهورة، وتحفيز اقتصاداتها بالدعم المالي والنقدي؛ فإن أزمة الاقتصاد العالمي الحالية لا تجد هذا التوافق في اجتماعات مجموعة العشرين في الفترة الأخيرة. وبحسب وزيرة المالية الإندونيسية، «ففي الأزمة السابقة كان جميع القادة في القارب نفسه، ولديهم القلق والعدو ذاته، أما اليوم فهم أعداء لبعضهم البعض». يأتي هذا فيما توقع «صندوق النقد الدولي»، أن يحقق الاقتصاد العالمي نموا بمعدل 2.7% فقط في 2023، مع تسجيل عديد من الاقتصادات انكماشا لربعين متتاليين، وهو مقياس للركود. وفي استطلاع صحيفة «وول استريت جورنال»، أكد 63% احتمالية ركود الاقتصاد الأمريكي، كما توقع عديد من الاقتصاديين حدوث الأمر ذاته في الاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة. وأظهرت البيانات انكماش الاقتصاد البريطاني في الربع الثالث لعام 2022، مع توقع نمو منطقة اليورو التي تضم 19 دولة ككل بنسبة 0.5%، وفيما يشهد الاقتصادان الألماني والبريطاني تراجعًا في 2023، فإن الركود يخيم على الصين أيضًا، ما يترك الاقتصاد العالمي بلا قاطرة واضحة للنمو. ولمواجهة خطر الانزلاق إلى ركود، تعهدت دول «مجموعة العشرين»، في بيانها الختامي، بالتقييم المستمر لوتيرة رفع الفائدة، وتجنب التداعيات، التي في مقدمتها تباطؤ النمو، وارتفاع الدولار الأمريكي، وما يفاقمه من أعباء على مديونية الدول النامية، ويزيد من فرص تخلي الحكومات عن السداد، فضلاً عن ارتفاع أسعار المواد الغذائية، فيما توقع البنك الدولي نتيجة ذلك انعدام الأمن الغذائي لأكثر من 200 مليون شخص. وإذا كان صدور البيان الختامي بحد ذاته يعد «مؤشرَ نجاح»، لهذا المؤتمر، حيث تمت صياغته بطريقة تجعله يخرج إلى النور، فإن ما حدث في «بالي» على هامش القمة، يضيف إلى نجاحها، فإضافة إلى ما تم بين الرئيسين الأمريكي والصيني، كان المؤتمر الصحفي للرئيس الفرنسي «ماكرون»، يوم 16 نوفمبر، الذي أعلن فيه دعم بلاده للانضمام الكامل للاتحاد الإفريقي إلى مجموعة العشرين، ما يعد خطوة أساسية في إعادة صياغة قواعد إدارة المؤسسات الدولية، كما نوه إلى عقد مؤتمر دولي حول توفير تمويل لدول الجنوب الأشد فقرًا ومعاناة في يونيو 2023 في باريس، حيث يتم تهيئة الظروف لدفعة تمويل قوية لهذه الدول، ويشمل ذلك إعادة تخصيص حقوق السحب الخاصة بصندوق النقد الدولي لتحقيق هذا الغرض. واستمرارا، صرح الرئيس الفرنسي، بأن باريس تعهدت مع دول أخرى، بإعادة تخصيص 30% من حقوق السحب الخاصة لديها للبلاد الأكثر هشاشة، وأوضح أن اجتماع قمة العشرين، سمح بإحراز تقدم، فيما يتعلق بإعادة هيكلة ديون الدول الأكثر هشاشة، وضرورة الخروج من الوضع الراهن للدول الأشد فقرًا، وحشد القطاع الخاص على نطاق واسع من أجل ثورة الطاقة والزراعة والصناعة. وفي تقييمه للقمة، صرح المستشار الألماني «أولاف شولتس»، أنها «ناجحة»، حيث و«جدت تفهمات تجاوزت بكثير ما كان متوقعًا»، فيما صرح رئيس الوزراء البريطاني، «ريشي سوناك»، بأننا «في حاجة إلى المضي قدمًا في المهمة، التي تم إنشاء مجموعة العشرين للقيام بها في إدارة الاقتصاد العالمي، خاصة في ظل الاضطرابات التي أحدثتها الحرب الأوكرانية، ومن بينها تداعياتها على تدفقات النفط الروسي لأوروبا». وإدراكًا لهذا الوضع عمل المسؤولون الأمريكيون والأوروبيون على إنهاء التفاصيل المتعلقة ببرنامج من شأنه أن يسمح للنفط الروسي بتجاوز العقوبات بشكل فعال، لكن فقط إذا تم بيعه بخصم أكبر مما تطلبه الدول بالفعل من موسكو. ويقوم المفاوضون بصياغة التفاصيل النهائية للخطة، بما في ذلك مستوى خفض السعر قبل 5 ديسمبر موعد فرض الحظر الأوروبي على النفط الروسي. بالإضافة إلى ذلك، كان من أبرز نجاحات الرئاسة الإندونيسية، تدشين مشروع «صندوق الوساطة المالية للوقاية والاستعداد والاستجابة للجائحة»، والذي جمع تمويلات من الدول الأكثر ثراء للدول متوسطة ومنخفضة الدخل، استعدادًا لأي جائحة مستقبلاً. وتأسس هذا الصندوق في سبتمبر 2022، ونجح خلال شهر في جمع تمويل بلغ 1.4 مليار دولار. على العموم، يبدو واضحا أن نجاح القمة في التعامل مع جوانب أزمة الاقتصاد العالمي، مرتبط بإرادة الدول الأطراف وتصرفاتها، فإذا كانت الحرب الأوكرانية هي التي تسببت في أزمة الاقتصاد العالمي، فإن وقفها يعد مقدمة أساسية لتنفيذ مخرجات هذا المؤتمر، خاصة معالجة أزمة التضخم، ومنع انزلاق الاقتصاد العالمي إلى الركود، حيث يسمح ذلك بإيجاد حلول لأزمات الطاقة والغذاء، كما أن التزام الدول الصناعية وفي مقدمتها الصين والولايات المتحدة بتعهداتها بشأن الانبعاثات الكربونية من شأنه منع ارتفاع الاحترار إلى أكثر من 1.5 درجة مئوية. وإذا كانت الخلافات الجيوسياسية قد ألقت بظلالها على هذه القمة -وهي ليست منتدى سياسيا – فإن مخاوف العالم المشتركة من انزلاقه إلى ركود، وتوافق الرئيسين الأمريكي والصيني، وتصريحات الرئيس الفرنسي، من شأنها أن تجد لمخرجات هذه القمة طريقا للتنفيذ.
مشاركة :