خلال الفترة من 18-20 نوفمبر 2022 انعقد حوار المنامة الأمني الثامن عشر والذي ينظمه سنويا المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بحضور بلغ 400 مشارك من وزراء ومسؤولين وقادة عسكريين وأكاديميين يمثلون 500 جهة، ذلك الحوار الذي اكتسب أهمية خاصة هذا العام لثلاثة أسباب الأول: إنه جاء في وقت تشهد فيه الشراكة الخليجية-الغربية اختبارا حقيقيا على خلفية تداعيات الأزمة الأوكرانية، والثاني: تزامن الحوار مع زيادة وتيرة التهديدات الإيرانية على نحو غير مسبوق والتي تجاوزت النطاق الجغرافي لدول الخليج العربي بما جعلها قضية محورية في المناقشات، والثالث: تجاوز الحوار توصيف التهديدات إلى الحديث عن بعض الحلول لمواجهتها، فما الذي أسفر عنه حوار هذا العام؟ فمع تعدد المناقشات وثرائها بيد أنها دارت حول أربعة عناصر وهي تحديد طبيعة التهديدات وخطورتها ثم مسبباتها واستراتيجيات مواجهتها ومعوقات ذلك. التكنولوجيا الحديثة وخاصة طائرات الدرونز وأمن الملاحة البحرية والبرامج النووية الإيرانية، قضايا ثلاث استحوذت على جل المناقشات إذ ترتبط بأمن دول الخليج العربي بشكل مباشر اتصالاً لا انفصالاً، ففي صراعها مع الدول الغربية ضمن المسألة النووية دأبت إيران على انتهاج آليات جديدة ضمن ذلك الصراع وهي توظيف ورقة البحار باستخدام التكنولوجيا الحديثة مع استمرار سمة الغموض حول برامجها النووية والمحصلة النهائية هي اتخاذ الصراع مضامين ومسارات جديدة تكتنفها صعوبات فنية في ظل عدم اليقين بتحديد مكان إطلاق تلك المسيرات وأخرى قانونية مفادها عدم وجود إطار قانوني دولي لتكييف تلك الجرائم وعقوباتها، تلك التهديدات التي أقر بها العديد من المشاركين وفي مقدمتهم أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية التي قالت وللمرة الأولى: «دول الخليج العربي حذرتنا من الخطر الإيراني ولكننا استغرقنا وقتا طويلا لفهم الحقيقة»، وفي ظل الارتباط الوثيق بين أمن دول الخليج العربي ودول الجوار فقد حدد المشاركون قضايا مثل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي وأمن الملاحة البحرية وحالة عدم الاستقرار الإقليمي كونها ذات تأثير في منظومة الأمن الإقليمي التي تعد دول الخليج العربي جزءا منها. ومع أهمية تحديد تلك التهديدات بشكل دقيق فقد سادت المناقشات توافقات على مسبباتها وأولها: غياب الردع وخاصة عندما بلغت التهديدات مداها مع استهداف ناقلات النفط غير ذي مرة وزيادة وتيرة تهديدات الأمن البحري عموماً، وثانيها: مسألة أولويات الدول الكبرى سواء ارتكزت على استراتيجيات جديدة للأمن القومي أو بسبب الحرب في أوكرانيا ومن ثم غياب المبادرات الشاملة، وثالثها: الأزمات الإقليمية وتأثيرها في تنامي التهديدات وخاصة في ظل عدم قدرة بعض الدول على حماية سواحلها البحرية الممتدة. ولا يعني ما سبق أن القوى الكبرى أو دول الخليج العربي قد وقفت مكتوفة الأيدي أمام تلك التهديدات العابرة للنطاق الإقليمي نحو العالم، فعلى صعيد القوى الكبرى إضافة إلى تأسيس التحالف العسكري البحري لأمن الملاحة عام 2019 والذي انضمت إليه ثلاث من دول الخليج العربي والبعثة الأوروبية لمراقبة الملاحة في مضيق هرمز عام 2020 فقد أعلنت الولايات المتحدة اعتزامها نشر سفن مسيرة لحماية الملاحة البحرية في الخليج العربي عام 2023 من خلال تطبيق برامج ذكاء اصطناعي متقدمة للغاية من خلال مجموعة العمل البحرية 159، أما بريطانيا وفرنسا فتواصلان دعم القدرات العسكرية لدول الخليج العربي عموما وفي الشق البحري على نحو خاص، ومجمل تلك الجهود هو التزام الدول الكبرى بأمن منطقة الخليج العربي بغض النظر عن طبيعة تلك الالتزامات، وعلى صعيد دول الخليج العربي فلاشك أن انخراطها في مواجهة تهديدات الأمن الإقليمي في ظل إدراكها لتغير مفهوم ذلك الأمن وكذلك الأقاليم إلى الحد الذي جعلها لاعبا أساسيا في كل من القرن الإفريقي وشرق المتوسط يعني قدرة دول الخليج على ممارسة الردع وخاصة في ظل تنامي إنفاقها العسكري وتحديث قواتها خلال السنوات الماضية الأمر الذي مكنها من لعب دور فاعل في منظومة العلاقات الدولية الراهنة كقوى متوسطة وهو أمر أجمع عليه المشاركون. ومع أهمية ذلك فإنه لاتزال هناك معوقات لمواجهة تلك التهديدات وأولها: تباين وجهات النظر حيال بعض القضايا ومن بينها اختلاط الأوراق الاقتصادية مع نظيرتها السياسية، ففي الوقت الذي أثيرت فيه مجدداً تداعيات قرار أوبك بلس بخفض إنتاج النفط وما رآه البعض بأنه ذو أبعاد سياسية فقد أجمعت مداخلات مسؤولي وأكاديميي دول الخليج في الحوار بأن ذلك القرار ذو أبعاد اقتصادية محضة بعيداً عن أي دلالات سياسية، وثانيها: اختلاف رؤى أطراف الصراعات الإقليمية مع رؤى الأطراف الدولية بما يعنيه ذلك من تعقد الصراعات وإطالة أمدها، وثالثها: غياب الضوابط الأخلاقية والقانونية بشأن استخدام التكنولوجيا الحديثة بما يتجاوز كونها أضحت مجالاً للتنافس بين القدرات العسكرية للدول بل وسيلة وغاية للميلشيات المسلحة بشكل أوجد معادلة جديدة تماماً للصراعات الإقليمية والدولية، ورابعها: تنافس المبادرات وربما عدم تكاملها، فعلى سبيل المثال عندما واجهت الملاحة البحرية تهديدات خلال الحرب العراقية- الإيرانية في الثمانينيات فيما عرف بحرب الناقلات كان الرد الدولي هو تحالف الراغبين بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وعضوية بعض الدول الأوروبية، وعلى نحو مغاير فإن الرد الدولي على تهديدات الملاحة البحرية في الخليج العربي منذ عام 2019 وحتى الآن مبادرات أقرب للتنافس منها إلى التكامل ولم تحقق هدف الردع، وخامسها: التنافس الدولي تجاه منطقة الخليج العربي ضمن استراتيجية دوله لتنويع شراكاتها الدولية. وفي تقديري إنه من بين مخرجات الحوار الإيجابية وجود آليات عملية لمواجهة التحديات وخاصة الأمن الغذائي والتغير المناخي والأمن البحري ضمن مجموعات عمل انخرطت فيها بعض دول الخليج العربي بما يعنيه من تراكم خبرات لديها ستكون مرتكزاً لأي ترتيبات أمنية إقليمية متوقعة وخاصة في ظل الحديث عن ترتيبات الأمن الإقليمي مثل نموذج بحر البلطيق وهلسنكي أو ضمن مدونات سلوك تستهدف إرساء قواعد متواترة للحد من الأعمال العدائية الإقليمية، فضلاً عن نجاح جهود ترسيم بعض نزاعات الحدود البحرية. وأتصور أن الحوار قد أسفر عن ثلاث نتائج استراتيجية الأولى: أنه لم يعد ممكنا بعد اليوم الحديث عن أمن إقليمي وآخر عالمي، حقيقة لم تؤكدها المناقشات فحسب بل أكدها الواقع، فالطاقة من منابعها لطرق مرورها نحو الأسواق العالمية قضية تهم العالم بأسره بما يتطلبه ذلك من تكامل الجهود لا تنافسها، والثانية: إن الأزمة الأوكرانية قد أسفرت عن شرق أوسط جديد يتطلب حواراً جديداً يستهدف حلولاً شاملة لحل الأزمات الإقليمية وليس إدارتها، والثالثة: بروز أهمية القوى المتوسطة في العالم مجدداً كمقدم للأمن ووسيط في النزاعات وشريك موثوق بما يعنيه ذلك من حتمية إعادة النظر في أسس الشراكات ومضامينها. { مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات»
مشاركة :