* كنتُ ذات مسَاء أنتبذُ مكانًا من المنزل بعيدًا عن صهيل الحركة وصَخبَ الحياة، حين فاجأتني نفْسي متسَائلةً عن بعض رفاق الدراسة الجامعية في مدينة لوس أنجلوس الأمريكية الصاخبة بحلو الحياة ومرّها. * * * * آلمني ذلك السؤال وسرّني في آن، رغم الشجن المقترن به لم يغادرْ الوجْدان بعد, أمّا أن أستعرضَ بعضًا من ذكريات تلك المرحلة من حياتي مبتعثًا في لوس أنجلوس فأمر ليس باليسير عليّ لسببيْن: أولهُما: أنَّ الردَّ على السؤال يتطلب حضورًا نشيطًا للذاكرة، والتنقيب في مجاهلها بحثًا عن ذكريات تجاوز عمرُ بعضهما الآن أكْثرَ من أربعين حوْلاً. وثانيهما: أنني قد بلغتُ منذئذٍ سنينًا عددًا تسَلّلت خلالها لأرْضةُ، النسيان إلى (حُجرات) الذاكرة، وصادرت من تجاويفها بعضًا من دقائق الذكريات وجليلها، يرتبط بعضُها برموز إنسانية أحمل لها في خاطري قدرًا غير هيّن من الإعجاب والتقدير، يأتي في مقدمة تلك الرموز صديقُ العمر المتعدّد المواهب والقدرات، معالي الدكتور غازي بن عبد الرحمن القصيبي طيب الله ثراه، وتغمّده برحمته ورضاه، وصديق عملاق كهذا يخجلُ (النسيان) أن ينسَاه. * * * * وتلك المرحلة الثمينة في حياتي جزءٌ هام من سيرة العُمر لا تُنسَى, اقترنت بصخب تلك المدينة الصّاخبة بكل شيء من الذكريات، بعضُها كان قاسيًا بمقاييس الزمان والمكان، وشاء ربُّ العزة والجلال أن تأتي تلك الفترةُ (امتدادًا) لـ (هجراتٍ) متواصلة، بدأت من عقبة (ضِلعَ) في عسير وأنا في طريقي إلى جازان لألحق بسيدي الوالد هناك، طيّب الله ثراه، وما تلاها من (هجرات) بعضها على (متن) بعير تهاميّ، أو في سيارة عافها زمانها ومكانها. حتى استقر بي الحلُّ والترحالُ في وقت لاحق من العمْر في مدينة لوس أنجلوس الصاخبة بكل شيء، من يُسْر وعُسْر. لأكرّسَ فيها سنوات من العُمر اقترنت بجهد جهيد من (السهر الأكاديمي) حتى منّ الله عليّ بالنجاح واجتياز العقبات تحصيلاً للشهادة الجامعية تخصّصًا في العلوم الإدارية، تلاها جهدٌ مماثل على مدى عامين وبضعة أشهر تحصيلاً لدرجة (الماجستير) في ذات التخصص، وأطوي بذلك مرحلة «ثمينة» من العمر هي في تقديري أزْهى مراحل العمر نجاحًا وإنجازًا، قبل أن أعود إلى ديار العزّ بلادي. * * * * لم تكن لتلك الرحلات (بوصلة) مدروسة تحميني من شقائها, لكنه القدرُ الأجمل والتدبير الربّاني الأعظم منحاني الصبر والجلد، مع قدر من الأمل والسلوان ترقبًا لما هو أفضل، ليبدلني الله جلّ جلالهُ من بعد عُسْري يُسْرًا، وأعبر إلى بَر الأمان والسلام والسلوان. وأجدُ نفسي «معَانق» الحلمَ الجميل الموعود الذي رافقني زمنًا طويلاً. * * * * عندئذٍ فقط، عرفتُ لأول مرة بعضَ ما كنت أتمناه، في حاضري المُعاش.. وغدي المنْتظَر.. والحمد لله من قبل ومن بعد...
مشاركة :