* كنتُ ذات مساءٍ انتبذُ مكاناً من المنزل بعيداً عن صهيل الحركة وصخب الحياة، ثم فاجأتني نفسي متسائلةً على بعض رفاق الدراسة الجامعية في مدينة لوس أنجلوس عروس المدائن في غرب أمريكا الصاخبة بحلو الحياة ومرّها. ** أسّرني السؤال وأشجاني في آن، شجنٌ اقترن بذلك السؤال لم يغادره الوجدان بعد, أما أن أستعرض بعضاً من ذكريات تلك المرحلة من حياتي في لوس أنجلوس، فأمر ليس بالهيّن عليّ لسببين: أولهما: أن الردَّ على السؤال ردّاً يطفئ شغف القارئ الكريم فأمر لم يعد هيّناً، لأنه يتطلب حضوراً نشطاً للذاكرة، والتنقيب في مجاهلها بحثاً عن ذكريات تجاوز عمر بعضها نصف قرن تقريباً. ** وثانيهما: أنني قد بلغت الآن سنيناً عدداً تسلّلت خلالها (أرْضةُ النسيان) إلى الذاكرة، وصادرت منها بعضاً من دقائق تلك الذكريات وجليلها، يرتبط جلُّها برموز إنسانية أحمل لها قدراً غير هين من الودّ، يأتي في مقدمتها معالي الصديق المتعدّد المواهب، الدكتور غازي القصيبي، تغمده الله برحمته ورضوانه، وصديق عملاق كهذا يخجلُ النسيانُ أن يُغيّبَ ذكراه. ** * تلك كانت مرحلةً ثمينةً من حياتي وجزءاً هاماً من خارطة العمر لا تُنسى، نما الودُّ لها في تلك المدينة الصاخبة بكل شيء، بعضُها كان قاسياً، بمقاييس الزمان والمكان، وكان في جلّها بفضل من رب العالمين رحمة وراحة بال. ** * وشاء الله سبحانه وتعالى أن تكون تلك الفترة الهامة امتداداً لـ(هجرات) سابقة في سيرة العُمر، بدأت من عقبة (ضلع) وأنا في طريقي من عسير إلى جازان، لألحقَ بسيدي الوالد طيب الله ثراه، وما تلاها من (هجرات)، بعضُها على ظهر بعير، أو في سيارة عافها الزمان والمكان, حتى استقرّ بي الحل والترحال في مدينة لوس أنجلوس، الصاخبة بلذات الحياة ومفاتنها حتى شددت الرحال عائداً إلى الوطن الغالي. ** * لم تكن لتلك الرحلات، غُدوّاً وإياباً، (بوصلة) أمينة تحميني من شقاء الحل والترحال، لكن القدر الأعظم والتدبير الأجمل من رب العالمين منحاني الصبر والأمل والسلوان، ترقُّباً لما هو أفضل، وقد كان بفضلٍ من الله ورضوان، فبدّلني من بعد العُسر يُسراً، لأعبر إلى برّ السلام والاطمئنان، وأجد نفسي تعانق مسار الحلم الجميل في بلادي، وبين أهلي، وعندئذٍ فقط، عرفت ربما لأول مرة بعضَ ما أتمناه في حاضري المعاش في بلادي وفي غدي المنتظر. والحمد لله من قبلُ ومن بعدُ.
مشاركة :