سأمضي عكس السير وأنضم إلى آراء العديد من أصحاب المهنة المحترفين، فقناعاتي تعززها أحداث لم تكن في حساباتي، أنا من أنصار بقاء الصحافة الورقية شرط تطويرها وتعديلها بل الدعوة إلى «ثورة» على القوالب الجامدة التي أوصلتها إلى حالة من البؤس جعلت أنصار «الصحافة الإلكترونية» يزهون بتسجيلهم نقاطاً في مرمى الخصم. الجدل المثير سيبقى مستمراً بين الورقي والإلكتروني كما هو لسان حال الزميلة والكاتبة الأردنية هدى سرحان التي تفاعلت مع المقال المنشور الأسبوع الماضي، ووصفها بعض الصحف التي تحولت إلى إلكترونية أنه عائد لفشلها في الوصول إلى القراء. لا نحتاج إلى أدلة للاعتراف بأن الصحافة المطبوعة كما الكتاب تعاني «سكرات الموت» السريرية، فبالأمس أعلنت دار الساقي في لندن أنها ستودع فرع كتبها الورقية كمثال واقعي، إنما لنعطي للموضوع أبعاداً مهمة أوسع وأشمل، فنحن لا نناقش «الأداة» أو «وسيلة التوصيل» وما إذا كنت أسرع من الورقي في المنافسة غير المتكافئة التي افتتحت منذ عام 1993، وهو تاريخ صدور أول صحيفة إلكترونية في أميركا، ومبشرة بتوظيف تكنولوجيا الاتصال والثورة المعلوماتية التي صاحبتها، بل نناقش «نوعية» المحتوى والمنتج الذي أفرزته هذه الثورة الرقمية في عالم الطباعة والنشر والثقافة السطحية التي سادت في عصرنا هذا؟ سؤالان مشروعان نطرحهما في هذ السياق: أي نوع من القراء هذا الذي صنعوه؟ وما هوية هذا الجيل الذي يتسابقون لجذبه ويعدوننا به وبأنه جيل المستقبل الذي سيقود العالم؟ الزميل والأستاذ الجامعي المتخصص في تدريس مادة الإعلام في جامعة الكويت د.حسن إبراهيم مكي، يقول ما نراه في عالم الميديا لا يصنف تحت عنوان «قارئ» بل هو أقرب لأن يكون «متصفحاً» وهناك فرق واضح وكبير بين الاثنين، فثورة الاتصالات الرقمية ولّدت متصفحين لا قراء، وإن كان لدى الزميل والكاتب عدنان مكاوي رأي آخر، فهو يرى أن الصحافة في العالم العربي لا تحتضر ورقياً فقط بل إلكترونياً، والسبب أن «بعض» من يديرونها لا علاقة لهم بالصحافة ولا يطبقون مبدأ الاختلاف في الرأي والرأي الآخر. ربما هناك آخرون على نقيض ذلك يجزمون بأن القضية مسألة وقت لا أكثر ولا أقل، وهذا ما يعرضه د.حسن إبراهيم مكي في مداخلة خاصة له، وعنده أنه بعد أقل من عشر سنوات ستختفي الصحافة الورقية لسببين اثنين: الأول: أن طبيعة المنصة ستنتهي وسيذهب الناس إلى الإلكتروني حتماً، فكما كان الفحم مورداً أولياً للطاقة وتحول إلى النفط كذلك الأمر مع «الورق»، والإعلام المؤسساتي والتقليدي انتهى، ليحل مكانه «إعلام الجماهير»، وبات الإعلان عن طريق المشاهير وبواسطة وسائل التواصل الاجتماعي لا عن طريق الصحف الورقية، ولهذا أصبح المشهد منصة إعلامية وإعلانية في الوقت نفسه، وبتنا نعيش في عصر الفلتان الإعلامي! الثاني: لن يكون هناك ورق أصلاً بعد سنوات للطباعة بسبب التغير المناخي وما يفرضه على الدول المصنعة والمنتجة للورق، تتسبب صناعة الورق في إزالة 100 مليون هكتار من الغابات، أي ما يعادل مساحة مصر، سنويا على مستوى الكرة الأرضية من أجل توفير مادة خام لمصانع الورق. موضوع «الاحتضار» ليس قدراً موجهاً نحو الصحافة الورقية، فحتى أكبر منصة رقمية في العالم وهي «تويتر» تعاني الاحتضار قبل أن يصطادها «إيلون ماسك» ويحولها إلى لعبة جديدة، مسرحها حرية التعبير في ساحة «المدينة الرقمية» كما أسمتها الأستاذة بجامعة كامبريدج «أنتارا هالدار». أما الأديبة والشاعرة اللبنانية عبير ريدان فتنحو بصوتها للقول إن الصحافة الورقية ما زالت «المنبر الأوسع لإيصال صوت الشارع إلى أصحاب القرار، فهي تمتاز بالثقة والمصداقية وتساهم في توظيف أكبر عدد من الأشخاص، وقابلة للاحتفاط بها لسنوات وعقود ومريحة للنظر بعكس الإلكتروني».
مشاركة :