حلت في الأول من نوفمبر 2022 الذكرى السنوية الرابعة والستون لتأسيس العلاقات الدبلوماسية بين المملكة المغربية وجمهورية الصين الشعبية (1958- 2022)، حيث تُولي الصين أهمية كبرى لعلاقتها مع دول العالم العربي عموما ومع المغـرب خصوصا، لذلك تشهد العلاقات بين الجانبين تطورا ملحوظا على نطاق واسع، في إطار الشراكة الإستراتيجية والتعاون المشترك المَبني على أساس المساواة والثقة المتبادلة، الذي يمثل أحد ثوابت السياسة الخارجية لكلا البلدين. إن العلاقات التاريخية المتينة التي جمعت دائما بين الصين والمغرب، ليست فقط في الوقت الحاضر بل على امتداد قرون عدة، وأيضا بالنظر إلى تراثهما ودورهما الحضاري المتميز. فلم تكن زيارة ابن بطوطة للصين مجرد رحلة عابرة بقدر ما كانت وشيجة ثقافية ربطت المغرب بالصين، فرغم بعد المسافة بين البلدين، فإن الصداقة بين الشعبين الصيني والمغربي امتدت منذ تاريخ قديم. القواسم المشتركة بين البلدين يتميز تاريخ البلدين بقواسم مشتركة، على الرغم من تباعدهما الجغرافي، خاصة في بداية القرن العشرين، فكلتا الدولتين كانتا تقاومان الاستعمار الأوروبي، فاقتصرت العلاقات بين البلدين في تلك الفترة على الدعم المتبادل والعلاقات الودية بين الشعوب التي تكافح ضد الاستعمار. وقد أتاح مؤتمر باندونغ الفرصة الأولى لإجراء مشاورات ثنائية مغربية- صينية. إن هذا المشترك التاريخي حَكم على البلدين بدعم بعضهما البعض في معركة الاستقلال. إن العلاقات المغربية- الصينية ترتكز على خلفية تاريخية إيجابية من العلاقات والروابط الحضارية القديمة بين الشعبين المغربي والصيني. وقد كان للتشابه الكبير بين القضايا المغربية ومثيلتها الصينية أثره البالغ في تضامنهما من أجل إنهاء السيطرة الأجنبية، وتوحيد الأوطان والمحافظة على السيادة وتكريس الجهود لإقرار السلام العادل، في ظل ظروف دولية بالغة الصعوبة والتعقيد. رغبة البلدين في تطوير العلاقات الثنائية إن رغبة التقارب وتعزيز العلاقات بين البلدين، هي قرينة الإرادة المشتركة بين قائدي البلدين، صاحب الجلالة الملك محمد السادس وفخامة الرئيس شي جين بينغ، لبناء شراكة نموذجية قادرة على مواجهة التحديات والاستجابة لتطلعات البلدين والشعبين الشقيقين، بالإضافة إلى الموقع الجيوستراتيجي للبلدين. ولذلك، ينبغي استثمار الفرصة التاريخية الراهنة المتجسدة في الرغبة المتبادلة بين البلدين في تطوير علاقاتهما في شتى المجالات، وذلك من خلال الأنشطة المتميزة والنوعية، والأيام الثقافية المغربية- الصينية التي تنظم بالبلدين في إطار الانفتاح على الثقافات، وترويجا للثقافة والفن الذي يميز البلدين، وإقبال المغاربة والصينيين على ذلك وتجاوبهم الإيجابي معه. يعتبر المغرب بالنسبة للصين وجهة إستراتيجية للتعاون لأنه يشكل جسرا بين الصين وأوروبا، فالمغرب ثاني دولة أفريقية تقيم علاقات مع الصين بعد الاستقلال سنة 1958. ومنذ ذلك الحين والعلاقات الثنائية مستقرة وفي تزايد مستمر وسلس. وغدت مواقف البلدين من العديد من القضايا الدولية متطابقة ووجهات نظرهما متماثلة. كما أن هناك تبادلا سياسيا على أعلى مستوى، سواء من خلال الزيارات المتبادلة بين الجانبين، والتي ركزت حول القضايا المشتركة والمصالح الحيوية والتعاون في إطار السيادة والدفاع عن الحقوق داخل الأمم المتحدة والتغيرات المناخية، بالإضافة إلى زيارات المسؤولين في الشؤون الخارجية والثقافة وإقامة معارض فنية للثقافتين وعقد التوأمات والشراكات بين المدن الصينية والمغربية. تُبدى الصين أهمية كبرى لعلاقتها مع المغرب لذلك ما فتئ المسؤولون في البلدين يعبران عن رغبتهما في تطوير العلاقات الثنائية، وهذا ما أكده العاهل المغربي الملك محمد السادس، في خطابه الموجه إلى المشاركين في قمة منتدى التعاون الصيني- الأفريقي في ديسمبر عام 2015 بجوهانسبرغ، حيث قال إن تطوير وتنمية العلاقات الصينية- الأفريقية "خيار إستراتيجي نلتزم به ونحرص كل الحرص على تحقيقه". ونجد بالمقابل تنويه المسؤولين في الصين بالإصلاحات السياسية التي باشرها المغرب، وبالتقدم الذي حققه في العديد من المجالات، لذلك أصبح نموذجا يحتذى بالنسبة لدول المنطقة. لذلك شهدت العلاقات الصينية- المغربية في السنوات الأخيرة تطورا مهما. كما أن لجمهورية الصين الشعبية مكانة متميزة لدى المغرب وأفريقيا، باعتبارها شريكا إستراتيجيا وهذا ما فتئ يعبر عنه المغرب في كل المحافل. "وإنه لمن دواعي ارتياحنا أن نلحظ ما يفتحه التعاون بين الصين وأفريقيا اليوم من آفاق واعدة، وذلك بالنظر إلى المقومات والإمكانيات الهائلة التي تزخر بها بلداننا، فضلا عن الفرص المتعددة، التي تتيحها الأسواق الأفريقية بالنسبة للشركات الصينية." (مقتطف من الخطاب الملكي السامي الذي وجهه جلالة الملك محمد السادس إلى قمة منتدى التعاون الصيني- الأفريقي، بكين يوم 05/11/2006). كل ذلك وضع أسسا طيبة للعلاقات المغربية- الصينية، خاصة مع التوقيع على اتفاقية انضمام المغرب إلى مبادرة "الحزام والطريق". انضمام المغرب لمبادرة "الحزام والطريق" اعتبارا لأهمية هذه المبادرة في تعزيز جسور التعاون والتنسيق المشترك بين المغرب والصين في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فضلا عن إبراز الدور المهم الذي لعبه المغرب في تعزيز التبادل الحضاري والثقافي مع بلدان الشرق القديم، وخاصة الصين. لذلك فإن انضمام المغرب إلى مبادرة "الحزام والطريق"، لحظة حاسمة في تاريخ العلاقات المغربية- الصينية للسنوات الثلاثين المقبلة، كما سيجلب ويُحقق صرحا مزدهرا ضمن مستقبل مشترك لكلا البلدين يؤدي إلى حقبة جديدة. ولهذا تولي الصين اهتماما للدور الإيجابي الذي يلعبه المغرب في انضمامه لمبادرة "الحزام والطريق"، بحكم موقعه الإستراتيجي المهم، ومكانته كفاعل محوري في المنطقة الأفريقية والمتوسطية والعربية- الإسلامية، وانخراطه الفعلي في إستراتيجية بديلة تروم تقوية علاقات تعاون الجنوب- الجنوب، وبناء أسس شراكة متينة تحقق انتظارات وتطلعات شعوب هذه المناطق على المستويين السياسي والاقتصادي، وكذا بفضل روح التسامح والتعايش التي ميزته تاريخيا، ليجد نفسه اليوم مؤهلا بشكل أكبر للعب دور البوابة الرئيسة في تعزيز الروابط السياسية والاقتصادية والتجارية بين البلدان التي تشملها بعض أطراف هذا الطريق الجديد، وفي تكريس قيم التعايش والحوار بين مختلف الديانات والثقافات. وكان المغرب أول دولة في منطقة شمالي أفريقيا يوقع مذكرة تفاهم مع الصين في سياق مبادرة "الحزام وطريق"، والتي يتوقع أن يكون لها أثر إيجابي على الاقتصاد المغربي وتعميق العلاقات، حيث بدأت الشركات الصينية تركز استثماراتها، التي يتزايد عددها باستمرار، في مختلف مناطق البلاد، ومن بينها بناء مدينة محمد السادس طنجة التقنية، في إطار مبادرة "الحزام والطريق" التي تعتمد على مفهوم عام للتحدي التجاري والتكنولوجي. إن اختيار الصين للمملكة المغربية وإدراجها ضمن سياستها الخارجية ومبادراتها الإستراتيجية لمشروع الحزام والطريق جاء تتويجا لجهود دبلوماسية مبنية على مواكبة التطورات التنموية والاقتصادية والسياسية الحاصلة بالمغرب. شراكة إستراتيجية وآفاق واعدة خلال زيارة العاهل المغربي الملك محمد السادس إلى بكين عام 2016، تم رفع مستوى العلاقات بين الصين والمغرب إلى علاقات الشراكة الإستراتيجية. كما شهد الملك محمد السادس مع الرئيس الصيني شي جين بينغ توقيع 15 اتفاقية تعاونية ثنائية في مجالات العدل والتجارة والطاقة والمالية والثقافة والسياحة والأمن الغذائي وغيرها من المجالات. ومنذ تلك الزيارة الملكية للصين، ازدادت الاستثمارات والتبادلات التجارية أيضا. وأضحت المنصةُ الأولى لميناء طنجة المتوسط في الشمال، الميناء الأكبر للحاويات في أفريقيا. كما توجت هذه الشراكة الإستراتيجية بين البلدين خلال يناير عام 2022 بالتوقيع على اتفاقية "خطة التنفيذ المشترك لمبادرة ’الحزام والطريق‘". ويبدو أن مستقبل العلاقات المغربية- الصينية واعد على جميع المستويات، سواء بواسطة دعم النمو الاقتصادي المغربي أو التبادل الفني والثقافي والرفع من نسبة منح الدراسة بالصين واعتبار المغرب وجهة سياحية للصينيين ومشروعات في الطاقات المتجددة، للاستفادة من التجربة الصينية، خاصة وأن المغرب لديه أكبر احتياطي عالمي للفوسفات والصين في حاجة إليه. وتُبدي شركات المقاولات الصينية الرغبة في الاستثمار بالمغرب، وكذلك تكثيف التبادل الثقافي والسياحي وخاصة مع الإقبال المتزايد على تعلم اللغة الصينية في الجامعات المغربية واللقاءات بين الشباب والطلبة. إن تطوير العلاقات الثقافية مع الصين، شرط أساسي للدفع بالعلاقات المغربية- الصينية في مجملها إلى المزيد من التطور. فالتعاون الثقافي يمكن أن يوفر سياجا فكريا لهذه العلاقات في مجملها ويعطيها الوجه الحضاري الذي تستحقه، إيمانا بأن الحوار الحضاري ينبغي أن يكون لغة العصر وأن المغرب والصين يجب أن يكون لهما دور فاعل في هذا الحوار. فالعلاقات الثقافية بين البلدين تحتاج للدعم بزيادة اشتراك الطرفين في الندوات والفعاليات الثقافية الثنائية والمتعددة. إن مستقبل العلاقات الصينية- المغربية يسير في اتجاه طريق تنمية مطردة وصحية بفضل التقارب الحاصل في المواقف والرؤى والدعم المتبادل في المنظمات الدولية من جهة، والرغبة المشتركة في مواصلة تعزيز أواصر الصداقة وتنويع التعاون من منظور التآزر والمنفعة المتبادلة من جهة أخرى. -- د. فؤاد الغـزيزر، باحث في العلاقات المغـربية- الآسيوية بكلية اللغات والفنون والعلوم الإنسانية في جامعة الحسن الأول، سطات، بالمملكة المغربية.
مشاركة :