أشرنا في المقال السابق إلى أنَّ الفيلسوف الفرنسي (فولتيرVoltaire، 1787)، في عمله القصصي، المعنون بـ»صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée، كان يردِّد -كغيره من قَبله ومن بَعده- ثقافة المَثَل الفرنسيِّ «فتِّشْ عن المرأة Cherchez la femme»، وهو مَثَلٌ ينحدر من ثقافةٍ عالميَّةٍ قديمةٍ جِدًّا، تَنسِب كلَّ الخطايا إلى (حوَّاء)، تعود إلى القِصَّة التوراتيَّة العتيقة حول حكاية (حوَّاء وآدم) في الفردوس، كما وردت في «العهد القديم»، وقبل ذلك في الأساطير السومريَّة.(1) ويظلُّ آدم -وَفق صورته في تلك الثقافة الذكوريَّة الظالمة- حمَلًا بريئًا، وغبيًّا في الوقت نفسه، تعبث به المرأة، إنْ في الأرض أو حتى في السماء! في تلك القِصَّة الطويلة تَرِد حكاية الفتاة الزاهرة الشباب المشرقة الجمال في (سرنديب) التي اختارها الملِك، بمساعدة (صادق)؛ وذلك بعد أن دبَّر حيلةً اكتشف بها مدَى وفاء نسائه، فلم يجد وفيَّة إلَّا هذه الفتاة، المسمَّاة (فاليد)، ذات العينين الزرقاوين، التي أمست مليكة الملِك، إلَّا أنَّ زعيم الكهنة هناك كان قد شرَّع قانونًا يحظر على الملِك أن يُحِبُّ امرأةً من ذوات عيون المها الزُّرق؛ ليستأثر بهنَّ هو! فحيكت مؤامرة ضِدَّ صادق؛ الأمر الذي دفعه إلى الهرب.(2) ثمَّ يُقابل (صادقًا)، في الفصل السابع عشر من القِصَّة، صائدٌ بائس، كان زوجًا لامرأة: «لم يكن إشراق الأرجوان الذي تُصدره مدينة (صُوْر) أشدَّ بهجةً ممَّا كان يشرب بياضها من الحُمرة»(3)، وقد اختطفها راضيةً (أوركانُ)، الذي اختطف من قبل (سميرًا)، زوجَ صادق، راضيةً أيضًا. وفي (سُوريَّة) يلتقي (صادق) في مرجٍ جميلٍ بأولئك النِّسوة اللاتي يبحثن للأمير (أوجول) عن (الباسليك) ليتداوى به من عِلَّةٍ أصابته، وكانت أولاء النِّسوةُ إماءَ الأمير، كما أفهمتْ السُّوريَّةُ منهنَّ صادقًا، وثَمَّةَ التقَى صادق المَلِكةَ (أستارتيه)، وقد أصبحت أَمَةً من أولئك الإماء، ودارَ بينهما حديث الحنان والدهش والفرح، لتعود إليه السيِّدة التي قاسَى في ذِكراها آلام البَين والأشواق، فحكَتْ ملِكة (بابل) لصادق ما حدث لها من بَعده، وكيف أنَّ الملِك زوجها جُنَّ من غيرته، ولولا مساعدة (القزم الأخرس) ما نجت من قتلها بسُمِّ الملِك، ولا نجا صادقٌ من شنقه، وكيف ساعدها (كادور) صديق صادق على الذهاب إلى معبد (أورزماد) لتختبئ فيه، حتى أخذها جند (أركانيا)، مع (ميسوف) المِصْريَّة المختطفة، لكنَّه لم يُنَل منها، وأخبرته بقِصَّة هربها، حتى وقعت في يد الأمير أوجول، عندها حاول صادق أن يتقرَّب إلى الأمير بعلاجه من مرضه، مقابل عِتق أستارتيه، فكان له ذلك، وتطوَّرت الأحداث حتى اختير صادق ملِكًا لبابل وزوجًا لأستارتيه.(4) وإلى هٰذه المواقف العاطفيَّة، تبرز في القِصَّة بعض الهفوات الأخلاقيَّة، كتلك الهفوة التي هفاها (صادق) مع إحدى وصيفات الملِكة (أستارتيه)(5)، وكالحيلة التي قامت بها الأرملة العَرَبيَّة مع رئيس كهنة النجوم؛ في سعيها لإمضائه على عفوٍ عن صادق، الذي كان قد حَرَّض نساء العَرَب على عصيان قانون التحريق المفروض عليهن.(6) وكذاك الاختبار الذي أعدَّه ملِك (سرنديب) لأزواجه بمساعدة صادق؛ لتتعرَّى أمامه خياناتُهن، إلَّا واحدة منهنَّ أثبتت وفاءها وإخلاصها له، فاصطفاها لنفسه من دونهن.(7) إنَّها قِصَّةٌ مليئةٌ بسلسلةٍ من الخيانات، تؤدِّي بالقارئ إلى انطباعٍ عامٍّ حول المرأة، هو أنَّها قليلة الوفاء، سريعة الغدر بالرَّجُل، تضعف أمام المغريات بسهولة، وما علينا، إذن، سوى أن «نُفَتِّشْ عن المرأة»، حسب المَثَل الفرنسيِّ الجاهلي المشار إليه! وهذا ما سنزيده نقاشًا في مقال الأسبوع المقبل من هذه السلسلة. (1) يُنظَر: سِفر التكوين، الإصحاح الثالث؛ وكريمر، صمويل نوح، (1980)، من ألواح سُومَر، ترجمة: طه باقر، مراجعة: أحمد فخري، (بغداد: مكتبة المثنَّى)، ، 242- 249. (2) يُنظَر: فولتير، فرانسوا ماري آرويه، (1979)، القَدَر، نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 86- 90. (3) يُنظَر: م.ن، 98. (4) يُنظَر: م.ن، 102- 000. (5) يُنظَر: م.ن، 48. (6) يُنظَر: م.ن، 79. سبق، في المقال الماضي، تفنيد هذا الزعم، من رجلٍ غربيٍّ اختلطت عليه جغرافيا الثقافات، بين بلاد (العَرَب) وبلاد البراهمة الهندوس في (الهند)! (7) يُنظَر: م.ن، 87- 88.
مشاركة :