الإسلاميَّات في «صادق أو القَدَر» لـ(فولتير) (دراسة مقارنة-7)

  • 1/6/2023
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

أشرنا في المقال السابق -من هذه الدراسة النقديَّة المقارنة في قِصَّة «صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée»، للفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787)- إلى أنَّ البطل قد جمع بين الصفات النبيلة التي يتحلَّى بها الفُرسان، وبين كونه عاشِقًا وفِيًّا مخلِصًا لمن يُحِب، وإلى أنَّ شجاعة (صادق) وفُروسيَّته تتأكَّدان في المواقف الحاسمة، التي تُمتحَن فيها فروسيَّة الأبطال، ومنها إنقاذه الفتاة المِصْريَّة (ميسوف) من قبضة مُحِبِّها الثائر، ومنها فوزه في المبارزة التي أُقيمت للترشيح لعرش (بابل)؛ فقد أثبت في تلك المبارزة بطولةً نادرةً وتفوُّقًا كبيرًا على خصمه (إيتوباد)، سواء في المرَّة الأُولَى، حين كان يرتدي لَأْمَتَه البيضاء، أو في المرَّة الأخرى، حين لم يكن عليه إلَّا ثوبٌ وقلنسوة؛ فتأهَّل بذلك ليُصبِح ملِك (بابل) وزوج ملِكة بابل. ومن معاني الفروسيَّة في شخصيَّة (صادق) الحِكمة والفِطنة والحِيلة، ومن الأدلَّة على ذلك فطنته في مجال القيافة.(1) ومنها أحكامه الذكيَّة العادلة التي كان يُصدِرها في بعض القضايا المعروضة عليه في فترة وزارته في مملكة (بابل).(2) وكذلك الطريقة التي استخرج بها من اليهوديِّ أموال سيِّده العَرَبي.(3) إلى غير هذا، وبذا فقد انتهت به حكمته وأريحيَّته، وانتهى به ذكاؤه وفروسيَّته النبيلة، إلى تولِّي مقاليد الحُكم في (بابل)، بعد أن تقاذفته صروف الدهر دهرًا طويلًا، وعلى الرغم من المعوقات التي وقفت في طريقه، ومنها (الحسد)، الذي يمكن أن يُعَدُّ محورًا فرعيًّا من محاور هذه القِصَّة، والذي كان محرِّكًا من محرِّكات أعظم الأمور فيها.(4) حتى إذا أردنا معرفة بعض المؤثِّرات على حياة (فولتير)، وسبر علاقاته التاريخيَّة بالشرق الإسلامي -وفق المدرسة التقليديَّة الفرنسيَّة في الأدب المقارن- فسنعرف أوَّلًا أنه كان أحبَّ سيِّدةً مثقَّفة، تُدعَى (مدام دوشتاليه Madame du Châtelet)، وتعلَّقتْ به، وفي سنة 1746م سعت (دوشتاليه) إلى ضمِّه عضوًا في المجمع اللُّغوي الفرنسي، وقد أصبح (فولتير) وحبيبته من المقرَّبين إلى (الدوقة دومين)، زوج الابن غير الشَّرعي لـ(لويس الرابع عشر)، ومن أجل تلك الأميرة ألَّف بعض قِصصه، كـ«زديج أو صادق»، و«ميكرو ميجاس»، وهاتان القِصَّتان ساهمتا كثيرًا في مجد فولتير، وإنْ كان قد ألَّفهما لاهيًا.(5) ولقد كانت صِلات الغرب بالشرق الإسلامي وثيقةً في القرن الثامن عشر، وكانت (فرنسا) بخاصَّة ذات صلةٍ كبيرةٍ بهذا الشرق؛ وذلك لقربها من منافذ حضارته في (الأندلس)، وما يعنينا هنا: الأدب القصصيُّ العَرَبيُّ، الذي عرفتْه (فرنسا)، شفويًّا ومكتوبًا، في القرون الوسطَى الأوروبيَّة، من خلال «كليلة ودمنة»، و«ألف ليلة وليلة»، و«كتاب السندباد»، وغيرها من الآثار القصصيَّة. ولعلَّ القرن الثامن عشر كان بداية التفاعل الحقيقيَّة بين الشرق والغرب، وبخاصة في (فرنسا)، وكأنَّه لم يكن لأدب القرن الثامن عشر منجًى من أن يعكس الاستشراق الفرنسي، فرأينا آثار ذلك عند (فولتير)، الذي كسا كتبه الخُلُقيَّة قالبًا شرقيًّا، واقتفى أثره، في (ألمانيا)، (لسّنغ).(6)، حتى لقد كان يُعاب على بعض الأدباء عدم تناول الأدب العَرَبيَّ ببعض الكتابات؛ كما فعل (فولتير) مع (بوسييه)، إذ عاب عليه تقاعسه عن أن يخصَّ العَرَب ببعض أدبه.(7) وكان «القُرآن الكريم» قد تُرجِم إلى بعض اللُّغات الأوربيَّة، ومنها الفرنسيَّة، في القرن الثامن عشر، فلم تعدم الآداب هناك بعض الآثار القُرآنيَّة، وتُرجِمت قصص «ألف ليلة وليلة»، لأوَّل مرَّة، على يد (أنطوان جالان Antoine Galland)، في أوائل القرن الثامن عشر، 1704-1717م، فكان لها أثرٌ واضح، وبخاصَّةٍ في أواخر القرن الثامن عشر؛ لأنها كانت تحمل بعض القضايا الرومانسيَّة، واستمرَّ تأثيرها طوال العصر الرومانسي.(7) بل لقد ساهمت «ألف ليلة وليلة» في اندحار الكلاسيكيَّة، وقيام الرومانسيَّة في (فرنسا)؛ إذ استفاد كتَّاب الثورة الفرنسيَّة، ومنهم (فولتير)، أساليبَ جديدةً يتخفَّون خلفها لنقد المجتمع أو السياسة الفرنسيَّة.(9) ولنا مع هذه الآثار والعلاقات جولة أخرى في مقال الأسبوع المقبل من هذه السلسلة. (1) يُنظَر: فولتير، فرانسوا ماري آرويه، (1979)، القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 22- 27. (2) يُنظَر: م.ن، 39- 44. (3) يُنظَر: م.ن، 65- 66. (4) يُنظَر: م.ن، 31- 34، وغيرها. (5) يُنظَر في هذا مثلًا: موروا، أندريه، (د.ت)، نصوص مختارة من فولتير، ترجمة: محمَّد غلاب، مراجعة: محمَّد القصِّاص، (القاهرة: المؤسَّسة العَرَبيَّة الحديثة)؛ زعيتر، عادل، (1955)، مقدِّمة ترجمته لـ«كنديد أو التفاؤل» لـ(فولتير)، (القاهرة: دار المعارف)؛ غصُّوب، يوسف، (1961)، مقدِّمة ترجمته لـ«صادق أو القَدَر» لـ(فولتير)، (بيروت: اللجنة الدوليَّة لترجمة الروائع). (6) يُنظَر: كبّ، هاملتون، (1954)، الأدب: (ضِمن تراث الإسلام، لجمهرة من المستشرقين، بإشراف: توماس أرنولد)، عَرَّبه وعلَّق عليه: جرجيس فتح الله المحامي، (الموصل: المطبعة العصريَّة)، 294. (7) يُنظَر: العقيقي، نجيب، (1947)، المستشرقون، (القاهرة: دار المعارف)، 1: 168. (8) يُنظَر: هلال، محمَّد غنيمي، (د.ت)، الأدب المقارن، (القاهرة: دار نهضة مِصْر)، 216- 217. (9) يُنظَر: السامرائي، عبدالجبار، (1982)، أثر ألف ليلة وليلة في الآداب الأوربيَّة، (بغداد: دار الحُرِّيَّة)، 9-10.

مشاركة :