خلال القرن التاسع عشر تغيّر توازنُ القوة في أوروبا بسبب تراجع الإمبراطورية العثمانية الطويل. ذلك أن الإمبراطورية التي كانت توصف بـ«رجل أوروبا المريض» كانت تعاني من اقتصاد ضعيف، وبيروقراطية متكلّسة وغير فعّالة، وأقاليم واسعة وبعيدة تمتد من البلقان إلى المحيط الهندي. وحين انضم قادتها إلى ألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية من أجل محاربة التحالف الذي يضم روسيا وإيطاليا وبريطانيا وفرنسا، ثم الولايات المتحدة لاحقاً، عانت بسبب وجودها على الطرف الخاسر خلال الحرب العالمية الأولى، فتم تقسيم إمبراطوريتها من قبل الحلفاء المنتصِرين. وما زالت نتائج هذا الحدث الدراماتيكي مستمرة وبدون تسوية إلى اليوم في القرن الحادي والعشرين. خلال ستين عاما الماضية، مرّت كل من فرنسا وإيطاليا والبرتغال وبلجيكا وفنلندا وألمانيا بفترات تراجعٍ وُصفت فيها بـ«الرجل المريض». واليوم، تُعد بريطانيا أحدث بلد يطلق عليه هذا الوصف.. فما السبب يا ترى؟ إن اقتصاد بريطانيا يعاني من مشاكل كثيرة بسبب تضافر عدد من العوامل. وكان وباء كوفيد والتضخم العالمي قد عبّدَا الطريق لمشاكل كبيرة تواجه بريطانيا، لكن المشاكل بدأت مع قرار قطع الروابط الاقتصادية بأوروبا. ففي 23 يونيو 2016، صوّت مواطنو المملكة المتحدة في استفتاء وطني لصالح خيار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. وقد حظيَّ تصويت «البريكسيت» هذا بتأييد 52 في المئة من السكان بينما عارضه 48 في المئة منهم. وقد كان قراراً غير ملزم، لكن حكومة «المحافظين» قرّرت اعتمادَ النتيجة والشروع في عملية الانسحاب الشاقة والطويلة من الاتحاد الأوروبي. رئيس الوزراء في حينه، ديفيد كامرون، عارض «البريكسيت» واستقال، فحلت محله تيريزا ماي. وهذه الأخيرة اصطدمت بصعوبات كبيرة في المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، فحل ملحها بوريس جونسون. وهذا الأخير قاد المحافظين إلى انتصار تاريخي في انتخابات عام 2019، لكن بسبب انتهاكه قواعد وباء كوفيد، اضطر للاستقالة هو أيضاً فحلّت محله ليز تراس التي لم تستمر في منصبها سوى سبعة أسابيع قبل أن يتسلم السلطة مكانَها الزعيمُ الحالي ريشي سوناك. ويواجه سوناك تحديات على العديد من الجبهات؛ فالناتج المحلي الإجمالي انخفض بأكثر من 3 في المئة منذ «البريكسيت». ومعدل التضخم في أسعار المواد الغذائية هو الأعلى منذ أربعين عاماً، وفواتير التدفئة ارتفعت بشكل استثنائي جراء الحرب في أوكرانيا والاضطرابات المسجلة في أسواق النفط والغاز. وبينما تقترب أعياد الميلاد المسيحية، تواجه بريطانيا إضرابات عبر البلاد في قطاعي النقل والبريد. وقد أدت إضرابات عمال السكك الحديدية إلى خلو مراكز المدن التجارية من المرتادين والمتبضعين، وتحديداً في الفترة التي تُحقق فيها المتاجرُ والمطاعمُ عادةً معظم دخلها السنوي. وفضلا عن ذلك، فإن ملايين بطاقات التهنئة والمعايدة بمناسبة أعياد الميلاد والطرود لن تصل إلى وجهاتها في الوقت المحدد، ربما ليس قبل السنة الجديدة. ولأنه يُنظر إلى النقابات والاتحادات العمالية على أنها داعمة تقليدية لحزب العمال، فإن التنديد العام بالموجة الحالية من الإضرابات قد يساعد المحافظين ويصبّ في مصلحتهم، إذ سيقولون إن حزب العمال لم يكن قوياً بما فيه الكفاية في التنديد بالإضرابات خشية استعداء المصدر الرئيسي لتمويل حملاته السياسية. غير أنه إذا خرجت بريطانيا من فصل الشتاء بدون أن تتفاقم الأزمة المالية، فقد يستطيع سوناك جعل حكومته تركز على التعافي الاقتصادي وقد يسجل تحسّناً في أرقامه في استطلاعات الرأي، لا سيما أن حزبَه لا يبدو مستعداً الآن لاستبداله بشخص آخر بالنظر إلى الاضطرابات التي حدثت العام الماضي. بيد أن مصيره سيتوقف على الكيفية التي سيتعاطى بها مع الاقتصاد والعلاقات مع أوروبا، ومع أزمة أخرى تلوح نذرها في الأفق في ظل إصرار «الحزب القومي الإسكتلندي» على المطالبة بإجراء استفتاء آخر حول سعي اسكتلندا للاستقلال عن بريطانيا وانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي من جديد. لكن هذا الأمر من غير المرجح أن يحدث حتى تنظيم انتخابات عامة، لن تجرى قبل يناير 2025. بيد أن احتمال انسحاب إسكتلندا من المملكة المتحدة يثير انفعالات قوية عبر أرجاء البلاد، مما قد يؤدي إلى تنامٍ أكبر للقومية الإنجليزية، الأمر الذي سيكون له تأثير مقلق على أوروبا وخارجها. *مدير البرامج الاستراتيجية بمركز «ناشيونل إنترست»- واشنطن
مشاركة :