التوتر الحاصل فى مصر الآن تحسبا لتفاعلات ذكرى ثورة ٢٥ يناير يمليه وهم تجميد التاريخ ومحاولة استنساخه. (1) فجر الخميس الماضى ١٤/١ قامت قوات أمن الإسكندرية بإلقاء القبض مرة ثانية خلال شهر على العامل سعيد شحاتة بالشركة العربية للغزل والنسيج (بوليفار) من منزله، ووجهت إليه نيابة أمن الدولة بالإسكندرية اتهامات بالتظاهر بمنطقة أبو يوسف بالعجمى. مع طلوع الشمس تم احتجاز الشاعر عمر حاذق ٥ ساعات بمطار القاهرة ومنع من السفر إلى هولندا لحضور احتفال شهده عدد كبير من مثقفى العالم. كان يفترض أن يتسلم فيه جائزة حرية التعبير، فى المطار أبلغ بأنه ممنوع من السفر لدواع أمنية، عند الظهر بالقاهرة اقتحمت قوات الأمن منزل الدكتور طاهر مختار عضو لجنة الحريات بنقابة الأطباء فى دورته السابقة، وألقى القبض عليه ومعه صديق له، وتم اقتياده إلى قسم عابدين. هناك قررت النيابة حبسه وصديقه أربعة أيام، بعد اتهامه بحيازة مطبوعات تدعو لقلب نظام الحكم، وذكر مصدر بنقابة الأطباء أنه اتهم أيضا بالاشتراك فى عنف أثناء ثورة يناير ٢٠١١ . بعد الظهر اقتحمت قوات الأمن موقع «مصر العربية» الإخبارى وصادرت ٨ أجهزة كمبيوتر، وألقت القبض على المدير الإدارى أحمد عبدالجواد (أطلق سراحه لاحقا.) فى ذات الوقت قررت نيابة بلدة مطاى بالمنيا حبس فتاة حاصلة على دبلوم فنى مدة أربعة أيام على ذمة التحقيقات لقيامها بتخصيص وإدارة ٨ صفحات على موقع التواصل الاجتماعى للتحريض على التظاهر فى ذكرى ٢٥ يناير. النيابة وجهت إليها تهمة الانضمام لجماعة إرهابية والتحريض على العنف إظافة إلى التحريض على التظاهر. ما سبق كان حصيلة الإجراءات الأمنية التى وقعت يوم الخميس ورصدها موقع «بداية»، وقد أضافت إليها صحف السبت طائفة أخرى من الأخبار سجلت بعضها صحيفة «الشروق» التى نشرت تصريحات لمساعد وزير الداخلية لشئون الحماية المدنية، اللواء محمد صقر، قال فيها إنه تم وضع خطة أمنية موسعة لتأمين يوم ٢٥ يناير. إذ رفعت أقصى درجات الاستنفار على مستوى الجمهورية. فألغيت إجازات الضباط، وتقرر نشر خبراء المفرقعات بكافة الميادين. كما تقرر تعيين خدمات خاصة بمحيط المنشآت الحيوية والمواقع الشرطية والمراكز التجارية المهمة فضلا عن المتنزهات العامة، ومن الأخبار التى أوردتها الجريدة أن قوات الأمن فى قسم شرطة دمياط ألقت القبض على فتاة تبلغ من العمر ٢٧ عاما بتهمة إنشاء ٢٥ حسابا على موقع التواصل الاجتماعى للتحريض على قلب نظام الحكم، وقد أمرت النيابة بحبسها ١٥ يوما. ذكرت «الشروق» أيضا أن وزير الأوقاف الدكتور محمد مختار جمعة ونائب رئيس الدعوة السلفية الدكتور ياسر برهامى تواجدا (مصادفة!) فى نهاية الأسبوع بأسوان، التى تعد أحد معاقل الحركة الإسلامية. هناك تحدث الوزير داعيا إلى وحدة الصف، والضرب بقوة على أيدى عناصر الاغتيال والفوضى والتخريب، الداعين إلى التطاول على الجيش والشرطة وعلى مرافق الدولة. كما دعا إلى محاكمة كل من يخرج عن مقتضيات تحقيق الأمن والاستقرار بتهمة ارتكاب الخيانة العظمى، حيث وصفهم بأنهم خونة وعملاء، أما الدكتور برهامى فقد دعا إلى عدم التظاهر فى ذكر ٢٥ يناير. وحذر «أبناء الدعوة الإسلامية» من الاستجابة لدعوات التخريب، قائلا إن مقاومة الفساد والظلم لا تكون بالتخريب وسفك الدماء. (2) ما سبق يلخص الأجواء فى مصر خلال يومين اثنين فقط من الأيام السابقة على حلول الذكرى الخامسة لانطلاق ثورة ٢٥ يناير عام ٢٠١١. وقد بدت حافلة بالاستنفار والقلق والترقب لما يمكن ان يحدث فى المناسبة. عبرت عن ذلك أيضا التعليقات التى تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعى خلال الآونة الأخيرة، وأغلبها دعا إلى التظاهر والنزول إلى الشوارع للميادين ورفع الرايات والشعارات التى ترددت آنذاك. وهو ما أسهم فيه بعض الشباب الثوريين الذين ينتمون إلى مختلف الاتجاهات بمن فيهم شباب ٦ أبريل والإخوان والاشتراكيون الثوريون وآخرون من الغاضبين الذين ليس لهم انتماء سياسى محدد. هذه النداءات أزعجت السلطات والأجهزة الأمنية التى توحى مختلف الشواهد بأنها تملك أسباب القوة، مع ذلك فقد تصرفت بعصبية وعشوائية دلت على شعور بالقلق وعدم الاطمئنان. وهو ما أشاع درجات مختلفة من التوجس والخوف. تجلى ذلك فى الدعوات التى أطلقت عبر وسائل التواصل الاجتماعى محذرة من الخروج ليلا إلى الميادين خشية التعرض للاعتقال. وتلك التى دعت النشطاء إلى عدم المبيت فى بيوتهم، وإلى اتباع نصائح واحتياطات أخرى يتعلق بعضها بمحتوى الهواتف أو الكمبيوترات التى يحملونها، ويتعلق البعض الآخر بما يتعين اتباعه عند التعرض للتحقيق والاستنطاق. إلى جانب الإجراءات الأمنية يلاحظ الباحث أن ذكرى ثورة يناير والقلق إزاء ما يمكن أن يحدث فى مصر مع حلول المناسبة بات محورا للخطاب السياسى وللتحركات التى شهدتها مصر منذ بداية الشهر الحالى. إذ لم يعد خافيا على أحد أن جذب الشباب وامتصاص غضبهم أصبح كامنا وراء مختلف الخطوات التى تمت، حيث ظل الهاجس الذى يحركها متمثلا فى كيفية صرفهم عن التظاهر فى ٢٥ يناير. آية ذلك مثلا أنه فى حين كان متوقعا أن تستنفر مصر وتعبأ لمواجهة الآثار المترتبة على الانتهاء من بناء سد النهضة الإثيوبى فى العام المقبل (٢٠١٧)، بحيث يكون العام الحالى هو عام الماء، فإننا فوجئتا بأنه تحول إلى الخطاب الرسمى إلى «عام الشباب». وكانت الرسالة واضحة ومفهومة فى ذلك الإعلان. بل إنه صدر حكم محكمة النقض بإدانة الرئىس مبارك وابنيه بالفساد فى قضية القصور الرئاسية، (كان ذلك مفاجئا لأنه لم تتم إدانته طوال السنوات الخمس الماضية عن الفساد السياسى الذى مارسه طوال ثلاثين عاما) ــ عندما حدث ذلك كان التفسير الذى شاع فى مختلف الأوساط أنها رسالة أريد بها إقناع ثوار يناير بأن القطيعة مع النظام السابق تمت وأن صفحته طويت تماما. وفى حين مارست الأجهزة الأمنية دورها، ووجهت السياسة رسائلها، فإن بعض الأبواق الإعلامية دأبت على تجريح ثورة يناير، مرة باعتبارها مؤامرة، ومرة أخرى باعتبارها عملية شارك فيها الرعاع، وادعى ثالث بأنها سرقت، وهوَّن رابع من شأنها مشيرا إلى أنها ثورة خساير وليس يناير، وتساءل خامس مستنكرا عما إذا كانت نعمة أم كارثة ونقمة. ولم يقصر الهجاءون فى ذم الربيع العربى الذى أتى بها والحط من شأنه حتى درج بعضهم على وصفه بالخراب العربى ضمن أوصاف سلبية أخرى تفاوتت فى الإيلام والتجريح. (3) القاسم المشترك الأعظم بين كل هؤلاء، الداعين إلى التظاهر والرافضين له، أنهم هوَّنوا من شأن الثورة ووقفوا عند اللحظة التاريخية النادرة التى وقعت فيها ولم يغادروها. أعنى أنهم لجأوا إلى تجميد الزمن وأوقفوا عجلة التاريخ رافضين متابعة مسيرته. هؤلاء الذين ثبتوا أبصارهم على لحظة ٢٥ يناير ولم يروا ما بعدها وقعوا فى خطأ جسيم حين أغمضوا أعينهم عما تلاها من أحداث ومتغيرات جعلت تكرارها ضربا من التمنى المستحيل. بكلام آخر فإن أجواء وحشود وأشواق تلك اللحظة يتعذر استنساخها بعد خمس سنوات، ببساطة لأن التاريخ لم يتوقف عند ذلك الموعد. غابت عن بال هؤلاء أجواء الحدث الكبير، حين انفجر فى ذلك التاريخ مخزون الغضب المتراكم فى الأعماق المصرية وعبر عن رفضه للاستبداد والفساد، الذى خيم على البلاد طوال العقود الثلاثة أو الأربعة السابقة. والتقطت الحشود شرارات الأمل التى انطلقت من تونس مبشرة بالزلزال القادم فى العالم العربى، إزاء ذلك توحدت الأمة المصرية والتقت على المطالبة بإسقاط نظام مبارك، وجلجلت هتافاتها فى الفضاء داعية إلى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. الأمر الذى أنعش الأحلام وأيقظ الوعى وأشاع روحا جديدة فى المجتمع. وهو ما يسوغ لنا أن نقول بأن الشعب المصرى ولد من جديد خلال الثمانية عشر يوما التى استغرقتها الثورة وانتهت بإسقاط نظام مبارك. صحيح أن التطورات اللاحقة لم تحسن استثمار اللحظة التاريخية، الأمر الذى عرض المسيرة لانتكاسات وتشوهات مرت بها تجارب ثورية أخرى، لكن ذلك لا ينبغى أن يلغى الأهمية الكبرى للحدث أو ينال من عمق تأثيره فى المجتمع، ولأن الأمر كذلك فإنه يصبح من التبسيط والتسطيح الشديدين أن يتصور أى طرف إمكانية استنساخ الحدث أو استحضاره بمظاهرات تخرج أو بيانات تصدر أو هتافات تطلق فى الفضاء وترددها مواقع التواصل الاجتماعى. إذ إن مثل هذه الظنون لا تعبر فقط عن التهوين من شأن الحدث والفقر فى إدراك طبائع الثورات وخبراتها، لكنه يعبر أيضا عن العجز عن رؤية حركة التاريخ. ذلك العجز نلمسه بشدة فى الأجواء الراهنة التى يخيم فيها قلق السلطة المفرط إزاء احتمال تجدد المظاهرات فى ذكرى ٢٥ يناير أو تطلع البعض لتكرار ما حدث فى عام ٢٠١١. حيث أتوقع أن يخيب ظن الطرفين حين تحل المناسبة، إلا أن أكثر ما يهمنى أن تعطى المناسبة حقها وتأخذ مكانتها التى تليق بها فى سجلات التاريخ، علما بأن اختزالها فى الصراع مع الإخوان، أو فى استهداف عناصر الجيش والشرطة، فضلا عن مظنة استحضارها فى أى مناسبة، ذلك كله يهون من شأنها ويبخسها حقها. (4) لقد تغير المزاج العام فى مصر خلال السنوات الخمس الماضية. لكن ذلك لا يعنى أن صفحة ثورة يناير طويت ومحى أثرها، وإن تصور كثيرون ذلك أو تمنوا. فالحدث الكبير كانت له تجلياته على أرض الواقع التى تعرضت للانتكاس والاندثار حقا، إلا أن له صداه الذى يتعذر محوه من بنية المجتمع ووجدان الناس. وهذا الصدى الذى يمثل الجزء الغاطس من تداعيات الثورة يطل علينا بين الحين والآخر فى ومضات سريعة لا تلبث أن تختفى. مرة فى انتخابات اتحاد الطلاب ومرة ثانية فى مقاطعة التصويت فى الانتخابات البرلمانية، وثالثة فى الوقفة الاحتجاجية لأمناء الشرطة، وخامسة فى اعتصام حملة الماجستير والدكتوراه.. وهكذا. ولم يخل الأمر من ومضات مازالت تقاوم الاختفاء تمثلت فى صمود بعض المنظمات الأهلية وشجاعة المنظمات الحقوقية التى تقود حملات الدعوة إلى وقف التعذيب وفضح الاختفاء القسرى وتحدى القوانين الجائرة. وتلك كلها مواقف نبيلة لها تكلفتها الباهظة التى احتملها أولئك الرجال والنساء الوطنيون. ودفعوا ثمنها عن طيب خاطر. الأمر الذى يعنى أن جذوة الأمل لم تنطفئ بعد وأن آفاق المستقبل الذى تتجمع فيه الغيوم لم تحكم إغلاق باب التفاؤل بغد يحل فيه الأمل حتى وإن طال انتظاره. فى غياب الشفافية وانسداد الأفق فإن الصورة الحقيقية لتفاعلات المجتمع يتعذر إدراك معالمها، لذلك تظل الانطباعات محكومة بالصور المصنوعة التى يقدمها الإعلام والجهات المختلفة التى توجهه لتشكيل الرأى العام. ورغم أن ذلك وضع يحجب الرؤية الصادقة لحراك المجتمع وتفاعلاته، إلا أنه يؤجل الحلم ولا يجهضه.
مشاركة :