واقفٌ.. يحبُّر الهواء بإزميل الحياة.. يحاكي المعدن الصلب في قامة الشجر.. يعيدُ للحياة بهجتها.. يجادل الظل في خصام الكلس، ونحو السلام يمدُّ كفيه.. من هنا كانت رسائله، ومن هنا كان البحر اول العارفين بخطوات حلمه التي لم تنفصل عن بوصلة الوطن. في هدوء لا ينشغل بالضوضاء ولا يحاكي ما للظلمة من وحشة، يتقدم ليشدُّ من الهواء لغته ومن الغيم بحرا من الماء، بصيرٌ بضالته فلا يسقطُ في الفراغ دون مسائلة السماء عن ألوان طيفها. من المعدن الفضي يغزلُ ثوب سنارة ملائكة تسردُ للأرض سر عنفوانها، في وطن ادرك فيه طفولته وصباه، حتى غدوه نحو مرحلة ولد فيها العمر شمسا لاطف فيها ما كان بالأمس يسرده القمر لعشاقه. وكنتَ يا «خليل» ذلك البيت الذي لم تغلق نوافذه ولم يغادره الزائرون، تداعب نسمات حلمك من دم القلب. تقدمتَ قبل أن يتقدم الحبرُ، وقبل أن تستعجلنا الحياة لنقرأ ما كنتَ بالأمس تجلس على عتباته، تراقبُ المارة في بصيرة (النحت) وتأمرنا أن نحكي لظلك الواقف حكاية تجعله يبتسم، فنشير لك، أنه لا ينطق، تبتسم وتقول: انظروا إلى فمه وركزوا بصركم بإمعان، سوف ترون ان شفتيه تنطق بما أنت تشعر به! كنتَ واقفاً كالنخل يا خليل.. في محفل المحبين.. تسامرهم بالجدل العفيف.. وبرؤية محكومة بالتجربة تمدُّ من جسدك جسراً للآخرين وفي لغة من بقايا المعدن، تتقدم قبل خطواتك تشيرُ بإصبعك، انه الواقفُ دون خوف! كانت البصيرة بالنسبة إليك هي الحياة.. في كل معترك يشاغلك الصلب من بقايا المادة.. جذوع الشجر شاهدة على عرسك، مفتونة بهمسك! أيها الواقف في السحر من الحياة، ذهب بك الفقد ولم يذهب بريقك! الا عدتَ لنا عبر سؤال جدلي، لمن يا خليل هذا الفضاء؟ ولمن هذا الصب.. لن يكسرك الوصب ولا تهزم لحظة اكتمال العاصفة امتد بامتداد الضوء.. وكن الجسد الشديد على الألم.. تحكي للوطن، سر لغة النوارس.. وتنفس عبر رئتين، الوطن أولهما.. والفن في معترك الصراع يأتي بعد الأول.. يتقدمك الفقد نحو فراغ من الحب.. بل يتقدمك الفقدُ ليأخذ الحب منا في عيون من نحب! لا.. أيها النداء الكبير.. أيتها الساحرات في سماوات تغسلك بالنقاء.. يخيم الصمتُ.. فانشغلت العيون بالهشة لغيابك. في صبيحة يوم الجمعة التاسع من ديسمبر 2022 غادرنا إلى الرفيق الأعلى الفنان القدير والنحات المخضرم الصديق خليل الهاشمي الذي تخرج في كلية الفنون الجميلة في روسيا، وقبل أن يدرس الفنون الجميلة كان البحر اولى خطواته نحو معرفة حكاية الفنون. يعد الفنان خليل الهاشمي من أشهر نحّاتي البحرين ومن الجيل المكافح والصابر على وجع أزمنته التي جاءت عبر ما قدمه من اعمال كان فيها البرونز والحجر والخشب ادوات لمادة عشقه. حول غير الملموس إلى ملموس متحرك عبر لغة التأمل، وعبر ما اضافه للنحت من سر لم يدركه الفنانون الآخرون الذين سبقوه، وإن تقارب معهم لكنه وضع بصمته التي خالفت بصماتهم. اصطبغت اعماله بأفكار قادته إلى التمسك بثيمة ارتبطت به كفنان للنحت، عبر اعماله التجريبية التجريدية البسيطة. كمثال: اعماله في مجموعة الطيور التي نفذّها عام 2010 التي لقيت نجاحاً كبيراً عبر ما ابتكره من تراكيب دقيقة تميز فيها ببراعة التنفيذ. شارك الهاشمي كفنان للنحت في العديد من المعارض المحلية والخارجية، فعرفت في الشرق الأوسط وفي اوروبا. وعبر تجربته الإبداعية التي شهد لها فنانو عصره، كانت ملامحها بينة عبر ما قدمه في المتحف الوطني وفي جمعية البحرين التشكيلية وفي دار البارح وغيرها من مواقع قدم فيها الهاشمي تجربته. غادرنا ليترك فضاءه مفتوحاً، عبر اعمال رائدة ومتقدمة، فلن نقول لك يا خليل الهاشمي وداعاً، لأنه لا يزال بريق عينيك عبر اعمال الفنية يسامرنا بظلك الواقف، كأنك بيننا عبر قبعتك التي لا تغادر رأسك. وإن افل النجم فالحكايات اكبر من الرحيل، هنا ستشير لنا بوصلة ازميلك إنني معكم اسامر واقع الحياة وأتقدم بوقوفي في العُلا من كل شيء، لأكون انا الهاشمي الذي ثقب عين الظلمة، ليبقي محبيه في سمر لا ينتهي، لأنه البهجة من ضوء الشمس التي تظل معنا ولا تغيب بغيابنا. لروحك اترك نبض قلبي، كي لا تغيب عن ذاكرتي.. بل سأدعك كما أنت جالسٌ تحيك مسألة ذات علاقة لا تنفصل.. تنظرُ إلى البحر وتراقب حركات السفن في الأزرق البهيج... فسارت بك الكواكب مكتملة الزينة، مشغولة بضوء عفيف، يغطي جسدك الأبيض بالهدوء.. قلنا انه نائم.. ستبصرونه من جديد بين حوريات يغسلن شعره ويعيدون قبعته لرأسه، يزفون العريس لحلم جنة وخلود. a.astrawi@gmail.com
مشاركة :