ساعات قليلة شاء لي ربي ان أخلو فيها بنفسي لأستعيد قدرا من الصفاء النفسي والروحي، وإذا شريط سينمائي من حكايات امي وجدتي يفقز إلى مخيلتي ويعايشه وجداني مستحضرا تلك العلاقات الدافئة في المحيط الاسري والاجتماعي العام. يا الله.. ما أروع التلاحم والتراحم بين الناس، ما هذا الجمال الرباني في المشاعر والسلوكيات الاكثر رقيا وتحضرا وانسانية، وما هذه الطمأنينة والسكينة التي تغلف مشاعرنا، فالغني لا يشعر الفقير بفقره، ولا الفقير يظهر ضعفه وحاجته للغني من باب التعفف وحفظ الكرامة، يمد كلا منهما الآخر بالعطف والحنان والمودة والاحترام والتقدير. كان الجيران يتبادلون الحديث اليومي عبر الشرفات والبلكونات، وهذه تعزم الجارة على شاي بالميرمية وتلك تقسم على جارتها أن تذوق زعتراتها. كانت أسطح المنازل مسارح للسمر فلا تخشى الاسرة تلصص الجيران عليها فقد للجار حرمه، بينما صار الناس اليوم يختبئون عن بعضهم، والاشطر هو من يعلي سور بيته أكثر حتى لا يلمحه جاره. حتى الحدائق والبساتين كان اهل الحي يعتبرون بستان جارهم، هو بستانهم يحافظون عليه و لا يخجلون من قطف بعض ثماره، اما اليوم فقد صنع الناس جدرانا حول حدائقهم، حيث يتم تغطية ثمارها لمنع الناس من قطف ثمرة، ومنع الطيور من ان تروي عطشها اوتسد جوعها في حر الصيف وبرودة الشتاء. كانت قلوب الناس طيبة و بيوتها مفتوحه لا يتذمر أحد من ضيف و لا يتثاقل من دعوة مهما كانت بسيطة، بينما صارت الأنانية المبدأ الوحيد الحاكم في فضاء السلوك الانساني، فلا قيمة لتراحم واخوة وجيرة، انما قيمة واحدة تتصدر المشهد النفسي والسلوكي اليومي لبني البشر هي قيمة الأنا. فما الذي غيرنا وجعل اخلاقنا تتبدل مئة وثمانين درجة نحو القسوة والأنانية، هل هي التربية أم زماننا ومتغيراته وطبيعة تحدياته من انترنت وحاسبات وبرامج تكرس لواقع افتراضي جعلت انسان هذه العصر يعيش عزلة عن الواقع ويرفض قيم الجماعة فيه. فلو كانت ازمة تربية فانا امهاتنا قد ورثن أساليب التربية عن اجدادنا، كما ورثن طيبة القلب وحب الخير والناس وتلمس الاعذار لهم، فما اسباب نكبتنا الاخلاقية حاليا؟ هل هو غياب الوعي الديني؟ لا أظن لأن قيمنا الدينية كانت تقدم باساليب بسيطة سهلة التطبيق، وما ان يسرد لنا استاذ الدين احدى القصص الدينية حتى نبكي من الخشوع و الإيمان، ولو أخطأت احدانا في سلوك معين سرعان ما تراجع نفسها وضميرها وتضبط ايقاع سلوكها. كانت خطبة الجمعة مليئة بالحكم والمواعظ الدينية عن الاخلاق والايمان دون تخويف او تنفير من الدين، بل تحفيز على التعايش بالحب والتسامح والمغفرة، بينما تعج الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي اليوم بالمشايخ والثقافة الدينية الموسعة، ومع ذلك فإن الاجيال لا تستقبل شروحات المشايخ بقلب مؤمن، بل أن القلوب صدأت وخربت بالحقد والحسد والعنصرية والتعصب مركزين فقط على المظهر الديني دون الجوهر و كانه جواز مرور. قد يبرر ويلقي معظمنا أزمتنا الاخلاقية في ملعب الازمة الاقتصادية ومتطلبات الحياة عالية التكاليف ثمنا للاجهزة الحديثة التي صارت ضرورية، بينما كان اهلنا يعيشون حياة بسيطة خالية من كل الكماليات والرفاهيات التي نتمتع بها اليوم وكانوا راضيين بمعيشتهم دون منافسة لاحد أو تقليد لآخرين. لكننا اليوم لم نعد نرضى بالواقعنا وصرنا نستهلك وقتنا وعمرنا في اعمال شاقة ولساعات طويلة لجلب المزيد من وسائل الترفيه والتنافس في الدنيا لان نكون اغنى من غيرنا والتمايز على الاخرين بما نملكه فوقعنا في فخ ابليس وخضعنا للمادية المتجبرة، واذا القلوب اشد قساوة من الحجر، وأن من الحجارة لما يتفجر منه الانهار! فالام انشغلت بوظيفتها ونجاحها فيه كسبا لمال أكثر ولكي توفر لطفلها ابن الثماني سنوات موبايل بمئات الدنانير دون أن تعي أنها تقتل براءته، بينما لم توفر له وقت لاحتضانه واشباعه بالحنان والتربية، وكذلك الاب انشغل بجمع المال لتجديد سيارته ولاظهار صورته الراقية امام المجتمع على حساب دوره الرقابي على الاسرة. للاسف كلنا تغيرنا وسرنا في متاهات المادية المقيتة، فبدت لنا سوآتها وخسرنا انسانيتنا، فهل من سبيل للرجوع؟ إنه قرار فردي أولاً واجتماعي ثانيا، المهم أن نبدأ في تصحيح طريقنا، ولنتخلى تدريجيا عن مظاهر الرفاهية والمادية، ولتكون الازمة الاقتصادية العالمية والحروب والمجاعات حافزا لنا لنغير انفسنا ولنمد يد العون لكل محتاج ونشفق على مخطئ ونرمي له طوق النجاة من الغرق انها مهمة غير مستحيلة، فالرحمة تصنع المعجزات حين نتكافل ويكمل بعضنا نقص الآخر. (الراي)
مشاركة :