في تاريخ البحرين الحديث قصص وحكايات لمواطنين من قلب المجتمع قاموا بأدوار مؤثرة في محيطهم الاجتماعي، وتمثل سيرة حياتهم صفحات مضيئة في تاريخ البحرين الاجتماعي المعاصر، ولا شك ان إلقاء الضوء على تجاربهم الحياتية يكشف لنا الكثير من القسمات الاجتماعية والإنسانية التي اتسمت بها حياة المواطن البحريني في مراحل التحول الاجتماعي والاقتصادي، وخاصة خلال مرحلة الطفرة النفطية وما بعدها، والدور الكبير الذي لعبته شركة «بابكو» في حياة كثير من البحرينيين. في السطور التالية نسلط الضوء على تجربة العم خليفة بن راشد الحمدان وهو من أبناء منطقة الرفاع الغربي، وكان ممن درسوا في شركة «بابكو» كما عمل أستاذا للتربية الرياضية وكان في شبابه من أبرز لاعبي نادي الرفاع الغربي بعد تأسيس النادي، كما كانت له تجربة رائدة تستحق تسليط الضوء عليها، وهي قيامه بإنشاء أول أستديو للتصوير الفوتوغرافي في منطقة الرفاع الغربي وهو الاستديو الذي كان شاهدا بما سجله من صور على رحلة تطور الحياة في منطقة الرفاع الغربي، وتشكل الصور التي يزخر بها متحف مصور يستحق أن يعطى كل اهتمام وعناية. في 30 أكتوبر عام 2020 بدأت زياراتي للعم خليفة بن راشد الحمدان، وهو كبير عائلة الحمدان في منزله لأستقي منه أحاديثه عن شريط الذكريات، وبقيت معي هذه المادة الى بعد سنتين ولم أنشرها إلا بعد أن أفرغتها وقمت بتحريرها وصياغتها بأسلوب كتابي، ثم عرضتها على الأستاذ خليفة الحمدان مجدداً فأقرها، وكنت آنذاك منهمكاً في عدة مشاريع ودراسات تاريخية وتراثية جعلتني أرجئ نشر هذه المادة بعض الوقت. والعم خليفة الحمدان هو أستاذ التربية الرياضية وقد ارتبط طول عمره بالرياضة، ولم تقتصر هوايته وشغفه بحب رياضة بعينها؛ بل تستطيع أن تصف العم بأنه شخص متعدد المواهب، فامتد الى الرسم والتصوير، وتعددت الألعاب التي شُغف بها وامتاز، من كرة القدم الى تنس الطاولة الى الجولف وغيرها من الرياضات، وكل هذه الرياضات له تاريخ معها، فقد يُفيد الباحثين في الشأن الرياضي، ولكن مع ذلك لم أتطرق إليها في تسجيلي هذا إلا بما يتقاطع مع تاريخ المنطقة -الرفاع الغربي، فبات الكلام مرتبطًا بشكل أو بآخر بتجربته الرائدة في التصوير وإنشاء أول استديو خاص بذلك في منطقة الرفاع الغربي، وما لذلك من ارتباط بتاريخ المنطقة، والذي حفظ من خلاله أرشيفات ضخمة جداً عن صور أهل الرفاع؛ كونه الاستديو الوحيد الموجود آنذاك في الرفاع الغربي. والعم خليفة الحمدان لديه شغف بالتوثيق والتأريخ، وقد حوّل ثلاثة غرف في منزله الى متاحف، ويضم المتحف الرئيسي صورا وألبومات كثيرة جدًا في شتى مراحل عمره، سواء كانت في التدريس أو في الرياضة أو في الحياة الاجتماعية الخاصة أو غيرها، وقد تستغرب كذلك من وجود صور قديمة جدًا، بل لم يكن قد ولد العم خليفة حينها، فأجابني بأن تلك الصور هي ما أعطاه إياها والده راشد بن علي الحمدان، فالأرشيف القديم قد ضُم إليه الأرشيف الذي جمعه العم خليفة الحمدان في مراحل عمره المتنوعة. وهذا المتحف يضمُّ أيضًا الأدوات القديمة من هواتف وأشرطة ومكائن خياطة وغيرها، فقد كان العم خليفة كثيراً ما يقول: أنا لا أرمي الأشياء القديمة، ولعل كان لديه بعد نظر؛ إذ باتت هذه الأشياء العادية في حينها تساوي أمورا قيمّة في زماننا، فالمادة تَعظمُ قيمتها مع تقادم الزمن؛ لأنها تكون نادرة وقليلة الوجود. وأستطيع أن أصف العم خليفة من خلال احتكاكي في تسجيل هذه المادة؛ بأنه شخص هادئ الطباع، قليل الكلام، يتكلم إن اقتضت الحاجة، ولكن الأهم -بالنسبة إلى الباحث- أنه كان متعاوناً جدا معي. وأنا أظن أن العم خليفة ثروة في التاريخ الرياضي أكثر من غيره، وخصوصًا أنه المجال الذي انخرط فيه كليةً لاعبًا ومدربًا ومتابعًا، وأظن أن أكبر قدر من المعلومات سوف يستخرج منه الباحث، إن كان متابعا لتاريخ اللعبة وعارفًا برجالاتها. وأرجو أن تكون هذه المقالة فاتحة لتسجيل سير رجال الرفاع الغربي، وإن كان هذا المشروع يحتاج إلى جهد كبير من الأجيال؛ ودعم في الأمور الفنية، وكل هذا غير متاح، فلذلك ما سوف نسجله هو جهد المقل الذي يرجو إقالة العثرة. يتحدث العم خليفة الحمدان عن سنوات حياته المبكرة فيقول: عندما كنا صغارا لم تكن قد أُسست بعد المدارس الحكومية، ولم تكن هنالك مدرسة إلا في الرفاع الشرقي، فلم يقبل الوالد أن أذهب الى هناك، لأن ذلك يستلزم مني المشي يوميًا الى الرفاع الشرقي، فبقينا سنة أو سنتين من دون أن نذهب الى المدرسة، إلى أن افتتحت مدرسة في الرفاع الغربي الابتدائية للبنين سنة 1949م، فسجلنا أنا ومحمد مطيري للانضمام إلى المدرسة ولكن لم يتم قبولنا في الصف الأول، إذ كانت أعمارنا آنذاك حول العشر سنين، فَعُمِلَ لنا امتحان بقراءة القرآن، وكنا آنذاك نحفظ خواتيم القرآن، مثل المعوذتين والإخلاص، فنجحنا ونقلونا تلقائيًا الى الصف الثاني. وقبل افتتاح المدارس النظامية، كان هنالك المطاوعة، وكنا نتعلم على أيديهم قراءة القرآن، ومن بين هؤلاء المطاوعة الملا سالم الكبيسي، وكان كذلك مؤذن مسجد الشيخ سلمان الذي كان يؤم فيه -آنذاك- الشيخ يوسف البوبشيت وابنه هو الشيخ أحمد البوبشيت خطيب مسجد الشيخ عيسى آل خليفة وقد دَرَسَ في الأزهر بمصر. وكذلك هنالك مطوعة اسمها بنه الكبيسي نذهب إليها في بيتها الذي بات الآن عمارة كبيرة، وهو يقصد عمارة الأشراف الموجودة على شارع الشيخ محمد في السوق. ووكان هناك مطوّع كذلك، لكنه كان يدرس أبناء الشيوخ مثل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة آنذاك، وهو أحمد الظهراني والد رئيس مجلس النواب سابقًا خليفة الظهراني، وكان يسمى أحمد المطوّع، وكان رجلا مباركا، تمنيت أن كل المطاوعة مثله، فكان يدرس أبناء الشيوخ، فندخل معهم من غير ترتيب ولا اتفاق، ولم يكن يطردنا، بل كان يتسامح في بقائنا مع من يريد أن يتعلم القرآن، كما أنه لم يكن يضرب قط. ودرسنا كذلك على يد مطوع من سترة اسمه ابن حبيل، وكان يدرسنا في القضيبية مع أبناء الشيوخ. ويضيف قائلا: لكني لم أدرس كثيرًا في مدرسة المطوّع، وبعد دخولنا المدرسة انقطعنا عن المطوّع، وكان أول مدير لها هو عبدعلي ميرزا، ثم أحمد يتيم ثم سلمان الجاسم، ثم عدنان شيخو (سوري الجنسية) وقد أُرسل الى مدرسة أحمد الفاتح، ثم تولى الإدارة بعده الأستاذ عبدالله الخثلان، وعبدالله الخثلان من أصدقائي فكلانا في نفس السن، وكنا نلعب ضد بعض في الثانوية عندما كنت أدرس في مدرسة بابكو (البرنتس)، وكذلك شقيقه أحمد الخثلان كان لاعب كرة ممتازا، وكان فريق البرنتس لا يُهزم سواء لعبنا ضد فرق المدارس الثانوية أو حتى مع الأجانب، فكان ضمن فريقنا أحمد بن سالمين من المحرق وفرحان مبارك من الرفاع وغيرهم من اللاعبين المميزين. وبعد أن تخرجت في المدرسة الابتدائية ذهبت الى مدرسة بابكو ضمن برنامج البرنتس مع بعض شباب الرفاع آنذاك وهم خليفة الظهراني وخليفة سعد، ومبارك عبدالرزاق الشيخ، ومبارك فرحان. إنشاء استديو الرفاع للتصوير بدأ مشروع استديو الحمدان بعد أن دخلت مدرسة بابكو (البرنتس)، وكانت اللغة التي ندرسها في تلك المدرسة هي الإنجليزية، فكنا ندرس عن أمور البترول والديزل ونحو ذلك، فكان معنا مدرس اسكتلندي أسس ناديا أو جمعية للتصوير في المدرسة تُعنَى بكيفية التصوير والتحميض والطباعة، فاشتركت ضمن الذين اشتركوا، وكان التصوير لديّ في السابق مجرد هواية فكنت أصور وأذهب الى الاستديو لتحميض الصور وطباعتها، ولكن مع هذه الجمعية وعلى يد هذا المدرس بات الأمر هواية ودراية؛ فكان الأستاذ يدرسنا كيفية التصوير ومراحله حتى الطباعة إلى أن تمكنت منها. وبعد أن انتهينا من هذه الدورة ورأيت في نفسي القدرة على ممارسة ذات الدور الذي يقوم به صاحب الاستديو اشتريت كل معدات التصوير والتحميض والطبع، وكانت الميزانية التي اشتريت بها كل هذه المعدات أتت من ذات المدرسة، فكانت المدرسة تعطينا كل 14 يوما مبلغ 14 روبية، فكانوا يدرسوننا ويعطوننا المال في الوقت ذاته؛ فادخرتُ مَبلغًا من هذا واستطعت لاحقًا أن أشتري المعدات. وبعد أن تخرجت في مدرسة البرنتس أُعتبرنا قد تخرجنا في المدرسة الثانوية، اذ بدأت الدراسة في معهد التدريب المهني في بابكو (البرنتس) منذ يوليو 1957م حتى يوليو 1961م، فشهادتها تضاهي الشهادة الثانوية، وإن كان مستوى التعليم في مدرسة البرنتس أقوى وأعلى من المدارس الحكومية. فبعد أن تخرجت كان المفترض أن أصبح مدرسًا في ذات المدرسة وهي البرنتس، ولكن قدمت استقالتي منها وشكرتهم على كل ما بذلوه لأجلي ووافقوا على الاستقالة؛ وكان سبب عدم الرغبة في العمل هناك، هو التزامي باللعب ضمن فريق الرفاع، فكان لا بد كل عصريّة أن أكون موجودا معهم، فكان من الصعب أن أوفق بين الاثنين، وخصوصًا أن العمل هناك كان بنظام المناوبات، وبعدها تقدمت لوظيفة التدريس وكتبت رسالة، وكان مسؤول التعليم آنذاك الشيخ محمد بن سلمان آل خليفة، فَقُبلنا أنا و5 أو 6 أشخاص قد تقدموا معي للتدريس، ولا أذكر منهم إلا شخصا اسمه راشد وأصله من المنامة وكان رساما ماهرا، وقد قبلنا باعتبارنا خريجي ثانوية، فأصبحت مدرسًا لمادة التربية الرياضية وكذلك تربية فنية (مثل الرسم والأمور الفنية)، وقد استفدت من مدرسة البرنتس، فقد كانوا يعطوننا متطلبات فنية كثيرة، فنمى هذا لدي حب الرسم. وبعد التخرج فتحت لي محل (استديو تصوير) في سوق الرفاع الغربي بجوار مكتبة عمي مبارك بن علي الحمدان، وكان الإيجار آنذاك دينارين ونصف الدينار ندفعها للبلدية، واستمر مبلغ الإيجار على ما هو عليه إلى أن تركنا المحل وهو ثابت. فبات الوضع أن أذهب صباحًا إلى مدرسة الرفاع الغربي الابتدائية للبنين للتدريس، فيبتدئ الدوام من الساعة السابعة صباحًا وينتهي في الواحدة ظهرًا، ثم أعود إلى المنزل وأتغدى وأُصلّي ثم أخرج للعب ضمن فريق الرفاع لكرة القدم حول الساعة الثالثة وننتهي في الرابعة، وبعد أن ننتهي من اللعب كنا نذهب الى الرفاع الشرقي لشراء بعض الطعام مثل الشباتي والسمبوسة ثم نذهب لنأكله في الاستديو، فكنت أبقى هنالك أعمل الى الساعة 12 منتصف الليل؛ وكنت أجني مالًا من الأستديو أكثر من مرتبي في التدريس! وكان معي أصدقاء مثل الإخوة يساعدونني في عملي بالاستديو مجانا من غير مقابل، وهم محمد زيد وفرحان مبارك وعبد الله مبارك (النيدي)، فكنا نتعاون لتنظيف الاستديو كل يوم، ثم علمتهم كيفية تحميض وطباعة الصور، فباتوا يساعدونني في ذلك أيضًا، فصارت عندهم فكرة عن كيفية العمل في الاستيديو. فكان هنالك اقبال على الاستديو لسببين، الأول أن هذا الاستديو هو الوحيد في المنطقة، والثاني أنه كان رخيصا وبكلفة معقولة، فكانت الصورة الكبيرة بأربع آنات، فكان يتردد على الأستديو الكثير من الناس من بينهم كبار الشيوخ، فكانت لدي مجموعة من الصور لهم، وكذلك الأصدقاء من بينهم طلاب الكشافة وغيرهم، فكانوا يأتون إليّ بدلًا من الذهاب الى المنامة. وتشكلّت لدي هذه الثروة من الصور حتى باتت لدي الآن مئات الألبومات، لأنني كنت احتفظ بنسخ من الصور التي كنتُ ألتقطها، فكانت نسخة لصاحب الصورة ونسخة لي، وحاليًا قمت بفكرة تحويل بعض الغرف في منزلي الى متاحف لعرض جزء من هذا التراث والصور القديمة والمعدات القديمة التي كنت لا أرمي منها شيئا، فباتت لدي ثلاثة متاحف في المنزل، وكانت أيضًا لدي مشاريع، ولكن مع قدوم هذا الوباء -فيروس كورونا- توقف كل شيء. ومن ضمن الأرشيف لدي مجموعة خاصة لسمو الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة حاكم البلاد السابق، وكذلك سمو الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء الراحل، وهذه الصور لم أصورها بنفسي، ولكن الشيوخ يرسلون صورهم إلى والدي راشد بن علي الحمدان كنوع من الاهداء، فكنت أطلب منه الاحتفاظ بها فيعطيني إياها، فتكونت لدي هذه المجموعة بالإضافة الى أرشيف استديو الحمدان. ومن هذه الصور مثلًا أول سفرة للشيخ عيسى بن سلمان والشيخ خليفة بن سلمان، والشيخ حمد بن عبدالله وعيسى بن سيف وغيرهم الى مصر ولبنان في رحلة سياحية، وكان الشيوخ آنذاك صغارا ربما تراوحت أعمارهم بين 15 أو 16 عاما، وقد تصوروا في مناطق متعددة من مصر ولبنان. وقد أهديت بعضا من هذه الصور إلى الشيخ إبراهيم بن حمد، وكنت أنا والشيخ عبد الله بن حمد أخوين في الرضاعة، فقمت بطباعة هذه الصور وأهديتها إليهم، فاستغربوا من أين هذه الصور، فأخبرتهم أنها من أرشيفي فقد كنت احتفظ بالصور. ولما أغلقت الاستديو بقيت المعدات في المحل وبقيت أدفع حتى دفعت حوالي الألف دينار تقريبًا، ثم لما أخليت المحل أخذت المعدات ووضعتها الآن في المتحف، ثم بات لدي دكان للخياطة ومازالت أولى المكائن التي استخدمتها في دكاني الأول موجودة لدي في المتحف. { باحث في التاريخوالتراث البحريني
مشاركة :