اتسمت السنوات القليلة الماضية بالعديد من الحروب التقليدية إلى جانب حروب تجارية أيضاً، إلا أن العام الجاري، الذي لم يعد متبقياً على انتهائه سوى يومين، يمكن أن يكون بمثابة المقدمة الحقيقية لحرب النجوم، ذلك أن الفضاء، والذي يعد الحد الاقتصادي الأخير، بات خلال 2022 مثاراً لسباق ملتهب بين القطاعين العام والخاص على الهيمنة العالمية. وفي هذا السياق، هناك شركات متخصصة في القطاع الفضائي، مثل «سبيس إكس»، المملوكة لرجل الأعمال الأمريكي المثير للجدل، إيلون ماسك، و«بلو أوريجين»، المملوكة لرائد التسوق الإلكتروني، جيف بيزوس، و«أوربيتال إيه تي كيه»، و«فياسات»، و«إس إي إس»، «وان ويب»، وما يزيد على 10.000 شركة أخرى، حققت نمواً لافتاً على مدار العقدين الأخيرين في القطاع الذي يمكن تسميته بــ«الفضاء الجديد»، والذي يشمل كل الخدمات الفضائية ذات الطابع التجاري كتحليل البيانات عن الفضاء، التنقيب عن المعادن على أسطح الكواكب والكويكبات، وأخيراً سياحة الفضاء، إلا أن هذا النمو قد بلغ ذروته خلال العام الجاري، ليس فقط على صعيد الأرقام والنسب المئوية، وإنما أيضاً فيما يتعلق بالتأثير والنفوذ المتزايد، حتى على الساحة السياسية. وللتدليل على ذلك، يكفي أن نذكر أن «سبيس إكس»، وهي الأشهر والأكثر تأثيراً ضمن شركات الخدمات التجارية في قطاع الفضاء، قد لعبت هذا العام دوراً فاصلاً في الإبقاء على شبكة الإنترنت الأوكرانية في حالة تشغيل كامل في خضم الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، والتي أثرت بالسلب على تشغيل شبكات الاتصالات الأوكرانية الأخرى. ويعزز هذا النفوذ أهمية المناقشة المتصاعدة حالياً بشأن الطرف الذي يجب أن يتحكم في اقتصاد الفضاء، والذي قدرت قيمته في العام الماضي بنحو 469 مليار دولار، وفقاً لبيانات صادرة عن مؤسسة «سبيس فاونديشن» الأمريكية غير الربحية المتخصصة في التوعية والتثقيف الفضائي، فيما من المتوقع أن ترتفع قيمته إلى 1.4 تريليون دولار بحلول عام 2030، بحسب تقديرات «بنك أوف أميركا». ورصدت بيانات «سبيس فاونديشن» أيضاً ارتفاعاً في إيرادات قطاع الفضاء التجاري في 2022 بنسبة 6.45، بالمقارنة مع 2020. وبينما اعتدنا أن يكون البحث الفضائي مقترناً ببرامج مدعومة حكومياً تركز بالأساس على الأمن الوطني والفخر الوطني والنهوض بحركة البحث العلمي عموماً، فقد بدأت الولايات المتحدة الأمريكية ترخي قبضتها الحكومية التي كانت محكمة على أبحاث الفضاء، وذلك بعد حادثين مميتين «أولهما انفجار مكوك الفضاء الأمريكي الشهير «تشالينجر» في 1986، وانفجار المكوك «كولومبيا» في عام 2003»، وتمخض هذا التوجه عن توصية صدرت في عام 2004 من لجنة رئاسية أمريكية شكلت خصيصاً في العام نفسه لدراسة مستقبل قطاع أبحاث الفضاء الأمريكي. وخلصت هذه التوصية إلى وجوب تحديد الدور الذي تضطلع به وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا»، وقصره على الأنشطة التي لا يتعين أن يمارسها سوى كيان حكومي. وبينما بدأت برامج الفضاء القائمة على شراكات بين القطاعين العام والخاص في عالمنا منذ حقبة الستينيات من القرن الماضي، إلا أن الانطلاقة القوية الحقيقية لشركات الفضاء الخاصة لم تبدأ إلا مع الألفية الجديدة، ولم تتعزز إلا في عام 2011 تحديداً، وهو العام الذي شهد إلغاء برنامج مكاكيك الفضاء الأمريكي تماماً، بعد تخفيض حجمه تدريجياً على مدى السنوات التي سبقت ذلك. وبدأ الكونجرس الأمريكي يحول حوافز التمويل المخصصة لأبحاث الفضاء، وذلك بُغية التشجيع على خصخصتها. وتحولت «ناسا» والكيانات الحكومية الأمريكية الأخرى إلى عملاء لشركات الفضاء الخاصة، بدلاً من مطورين للتقنيات الجديدة المستخدمة في أبحاث الفضاء أو حنى مشرفين على تطبيق هذه التقنيات. وبدأت بعض الدول المتقدمة الأخرى تتبنى نفس نهج الخصخصة في قطاع الفضاء، كما تبنته الولايات المتحدة، وتحول الأمر إلى سباق على الهيمنة الفضائية بين الشركات الفضائية الخاصة من جانب، والكيانات الحكومية المعنية من جانب آخر. وصار المراقبون المتخصصون يستشرفون آفاق هذا السباق، ويحاولون توقع السيناريوهات الأقرب للمنطق لكيفية نهايته. ويجمع غالبيتهم إلى أن السباق سيحول العديد من الأفكار التي كانت مجرد خيال علمي نشاهده ونستمتع في الأفلام الأمريكية إلى أمر واقع وحقيقة ملموسة، وفي غضون وقتٍ قريب. فعلى سبيل المثال، يمكننا أن نشاهد قريباً مستعمرات فضائية يسكنها بشر، فنادق فضائية وأثرياء يكدسون المعادن النفيسة التي يمتلكونها في الفضاء هرباً من الضرائب ومن ملاحقة السلطات المعنية في بلدانهم، وغيرها من الأفكار التي ستتجسد على أرض الواقع بفضل السباق التجاري المتصاعد حالياً على استغلال الفضاء. ترجمة بتصرف: سيد صالح طباعة Email فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :