رحل البرازيلي بيليه عن عالمنا بعد أن أثث أسطورته بالذهب. بعد أكثر من الف هدف وثلاث من كؤوس العالم حملها إلى بلاده اعتزل الكرة عام 1977 غير أن الشهرة لم تعتزله. لم يذهب إلى الذاكرة الرياضية إلا باعتباره جزءا من الحاضر. ذلك لأنه ما من واحد من عباقرة الكرة إلا وحلم في أن يقف إلى جانب بيليه في الصورة التاريخية العابرة للأزمنة. ملك الكرة كان فنانا. بين قدميه تحولت الكرة إلى فن. وكان الأكثر نعومة بين اللاعبين عبر التاريخ بالرغم من أنه كان الأسرع في المضي نحو الهدف. وكان يُرضي خصومه الذي يُهزمون بسبب أهدافه أنهم وقفوا معه على أرض واحدة. نظروا إليه مباشرة. وهو أكثر شهرة من بلاده، كبيرة المساحة كثيرة السكان. لأنه لم يكن الأشهر في بلاده، بل الأشهر في العالم. قال الرئيس البرازيلي لويس ايناسيو لولا دي سيلفا حين سمع بخبر وفاته "لم يكن هناك رقم 10 في قيمة وقامة بيليه. شكرا بيليه". يكفي أن تراه مرة واحدة وهو يلعب حتى تقع تحت تأثير سحره. لا يحتاج الاعجاب ببيليه إلى خبرة في كرة القدم أو في الرياضة بشكل عام. الموسيقى التي يتركها إيقاع خطواته المتسارعة على أرض الملعب هي مصدر إلهام بالنسبة للكثيرين. ربما كان الاعجاب به سببا في اخفاق المدافعين في التصدي له أو مجاراته وهو يتركهم وراءه ذاهبا بكرته إلى الهدف مباشرة. وبالرغم من أن البرازيل كلها كانت قد استعدت لإقامة جنازة عظيمة لبطلها القومي غير أن تلك الجنازة لن تكون كئيبة. ذلك لأن رجلا وزع المسرات في بيوت كل البرازيليين لا يستحق أن يُثقل عليه بالأحزان أو يتم إغراقه بدموع لزجة أو يُزعج بالبكاء الذي لن يحتاج إليه. كان رجل الدهشة التي تتبعها ضحكة كبيرة. ولأن البرازيليين شعب راقص، عميق في التعرف على معنى أن يكون الجسد راقصا فإنهم لن يدخروا وسعا في تسلية بيليه وهو يلقي عليهم نظرته الأخيرة. يوم كان بيليه يجلب السعادة إلى قلوب مواطنيه لم تكن البرازيل سعيدة. كان القهر السياسي المرتبط بأنشطة المخابرات الأميركية في رعاية الشركات المهيمنة على كل جوانب الاقتصاد شرسا في التهام كل أسباب الحياة. غير أن المقاومة بكرة القدم كانت درسا عميقا في استجلاب أسباب أخرى للحياة. هي أسباب متخيلة لا تقع دائما على أرض الواقع. فالهدف الذي يحققه بيليه لا يبقى منه أثر على أرض الواقع. هو مجرد وهم. غير أنه الوهم الذي يصنع الحقيقة. مثله في ذلك مثل الفن الذي يغير الواقع من غير أن يمسه. لقد غير بيليه معنى الحياة لدى مواطنيه حين وهبهم سعادة كانوا في أمس الحاجة إليها. وهنا بالضبط يكمن سر أسطورته التي كانت تمشي بقدميه وهو حي وستحلق بجناحيه وهو ميت. فرد بصيغة الجمع والاستعارة هنا من الشاعر العربي الكبير أدونيس. كانت هناك أمة كاملة تركض بخفة على الملعب الأخضر وهي التي تنتصر ولم يكن بيليه إلا رسولها المفوض الذي يبعث من خلال كرته الأمل في نفوس وقلوب وعقول عائلته الكبيرة التي تشعر من خلاله أنها لا تزال على قيد الحياة. في عامه السابع والثلاثين اعتزل بيليه اللعب. غير أنه لم يهبط من القمة بالرغم من ظهور لاعبي كرة وجدوا الطريق أمامهم ممهدة للوصول إلى تلك القمة. لكنهم لم يقفوا إلى جانبه. في حياته كان يراقب المشهد الكروي ويعبر بتواضع عن سروره بانجازات اللاعبين من غير أن تزعجه براعة البعض التي يشعر أنهم من خلالها قد تفوقوا عليه. كان إنسانيا في تفاعله مع التطور الذي طرأ على اللعبة. ولم يكن ينافس أحدا وهو الجالس على القمة التي لم يكن يرغب في أن يظل فيها وحيدا. لذلك لم تكن شهرته قفصا. كان رجلا محبوبا اينما ذهب. ليس في البرازيل وحدها، بل في العالم كله. بيليه رجل نادر الطراز. لم يُنس بالرغم من أنه كان قد اختفى من الملاعب أكثر من أربعين عاما ولم يكن رجلا يهوى الشهرة ويعمل من أجلها. جاءته الشهرة فوهبها لبلاده. البرازيل اليوم هي عنوان التفوق في كرة القدم في سياق ثقافتها الراقية. ثقافة الحب والفرح والرقص والمسرة التي تصنع تاريخا مناهضا للاستعمار. لن يزعج البرازيليون نجمهم بالأحزان، بل سيرقصون مثلما كان يفعل وهو يعلو بهم إلى السماء.
مشاركة :