رواية "الأثير" للدكتورة إيمان بقاعي: سرديَّةٌ عشقيَّة في شوارع بيروت المُعتَّقة بالنِّضالِ الأرجوانيّ

  • 12/30/2022
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

تستنطقُ روايةُ “الأثير” للرِّوائيَّةِ والباحثةِ الجامعيَّةِ الدكتورة إيمان بقاعي، خبايا الذاكِرةِ المكانيَّةِ خلال فترةِ الحربِ اللبنانيَّة، إذ تعودُ بِنَا إلى 30 عاماً خلت، في تداعٍ أليم وتشظٍ سقيم لذكرياتٍ وفواجع مُتلاحقة، قيِّض للُبنان _ الهشِّ سياسيَّاً واجتماعيَّاً آنذاك من أن يختبرها بكُلِّيته؛ إلى الإشكاليَّاتِ الَّتي تطرحُها مسائل مِن مِثل “الحياد” أو “التعايُش” أو “الحُريَّة” أو “التبعيَّة”، أو “الاصطفافات الهميونيَّة”، إلى المصيرِ المجهول / أو المُلتبس عند البعض لصيغةِ عيش “الوحدة”؛ ناهيك عن تحقيقِ فاعليَّةِ “المُواطنة” والانتماء حاضراً، ومستقبل الهُويَّةِ الوطنيَّةِ. وتُصوِّر لنا “الأثير” مُنذُ بدايتها الوصفيَّة، انشغالَ سيدةٍ خمسينيَّةِ تقطعُ الطريق، زمن جائحة كورونا، بتنقُّلها ما بين الأزقةِ في بيروت. فتعودُ بزمن الخِطاب السّردي إلى ماضٍ سحيق، -(ومنهُ الخِطاب المسرود الذَّاتيّ؛ أو المسرود المنقول؛ أو المنقول المُباشر / أو غير المُباشر؛ أو الخِطاب المعروض غير المُباشر…)- موغلةً في الكشفِ _عبر تقنيَّة “الحوارِ”- عن مكامنِ الخللِ في البُنيانِ اللبنانيّ بفوارقِهِ الثقافيَّةِ والفئويَّةِ _ المُجتمعيَّةِ والسياسيَّةِ والحزبيَّةِ، والاقتصاديَّةِ -الماليَّةِ، والهُويَّةِ الذَّاتية / الشخصيَّة أو الهُويَّةِ الثقافيَّةِ أو تلك الوطنيَّةِ … ، بعدما تآمر أهلُ الدَّاخل والخارج عليه، وعملوا على تحطيمِ كثيرٍ من قطاعاتِهِ الحيويَّةِ والاقتصاديَّةِ؛ هذا إلى جانبِ هدمِ البُنى الحيويَّةِ للمدينةِ، وتقويض البُنى التحتيَّةِ انطلاقاً من المباني التجاريَّةِ والصناعيَّةِ والسكنيَّةِ الضخمة، وإحراقِ المكتبات وأكبر المُنتجعاتِ السياحيَّةِ وأفخم الفنادقِ البيروتيَّةِ والعالميَّة ممَّن كانت تستقبِلُ زوَّاراً من أقطابِ العالمِ بأسرِهِ؛ بالإضافة إلى مسألةِ اختلاسِ أموالِ المصارف، ونهبٍ تدميريّ شاملِ للأسواقِ التجاريَّة وسط البلدِ زمن الحربِ الُّلبنانيَّةِ الدَّامية. وتتكرَّر مُشاهداتُ التدمير المُمنهج في “نسف مرفأ بيروت” العام 2020 ، والنكبةِ الإنسانيَّة الَّتي أصابت المُجتمع اللبنانيِّ في صميمِ وُجدانِهِ وأدمت قلبهُ وشرذمت رُوحَهُ، وأفجعت الأُسر على أحبَّةٍ قضوا من دون تحقيق للعدالة حتَّى السَّاعة، بعدما افترشت جُثثُ قتلانا الأمكنة؛ فأرجأت مدينتنا زمن هدوئِهَا الأمني والفرح نسبياً إلى حين. غير أنَّ هذا الانفجار الـ “بيروشيما” الكوني، قد ألحقَ أيضاً أضراراً وضعضعةً في الأبنيةِ الأثريَّةِ والتُراثيَّةِ والقصورِ ذاتِ الطَّابع الجماليِّ الأخَّاذ، خاصَّةً تلك الَّتي تعودُ إلى الحُقب الصليبيَّةِ والمملوكيَّةِ والعثمانيَّةِ، والأبنيةِ ذات الطابعِ المِعماريِّ المُعاصر.  وبناءً عليه، تتنقَّلُ حركيَّةُ السّرد الرِّوائيّ في “أثير” الدكتورة بقاعي، مِن الأشرفيةِ إلى شارعِ الحمراء والأزقَّة وزواريب بيروت المُعتَّقةِ بالنِّضال الأرجوانيّ، فتُطالعنا مشهديَّاتٌ لأبنيتِهَا القديمة، تلوذُ مختبئةً في ذاكرةِ الشخصيَّةِ البيروتيَّة، إذ اختبرت هذه العلاقة التواصليَّة ما بين المكانِ والذَّاتِ الإنسانة لِكُلٍّ من البطلين الحبيبين “الأغلى” وهي حبيبة “الأثير”. ويجيءُ تصوير الحميميَّة في الرِّوايةِ مُضفياً لميسَ أحلام الحُبّ الغارقِ في الضلالِ والأحلامِ والحقيقةِ. ههُنا يستعرضُ الخطابُ السَّرديّ في “الأثير” هواجسَ حبيبين، تشغلهُما الذِّكرياتُ المكانيَّة المجبولة بذاكِرتِهما الشخصيَّةِ وتلك الجمعيَّة، وتستحيلُ الأمكنةُ المُشخصنة مُلكاً خاصاً، فتنفضُ عن جِلدها دمار “الأميرة” الجميلة المُشتهاة، وقد سرقَ الرُّعبُ من جُفونِها طراوةَ ملامحها، بعد أن شوَّه زحفُ حضارةٍ مُغايرةٍ عنها، لا تُشابِهُها في شيءٍ، واستولى عليها الحُزنُ والخزي والتشرُّد. وبذا تُمارِسُ روايةُ “الأثير” حميميَّةَ الأرق العشقيّ والجُرح الضائع، بمُتناقضاتها، تحت لُجَّة العذاباتِ النفسيَّةِ المُتأجِّجةِ والقلق، والهروب، والحِياد، والانعزال، والانخراطِ بفعاليَّةٍ. حتَّى يكاد يبدو وكأنَّ هناك سلسلةً من الأحداثِ السياسيَّةِ والاجتماعيَّةِ، قد جرى رصدُها من خِلالِ مسارِ التحوُّلاتِ الدّراماتيكيَّةِ داخل المتنِ الحِكائيِّ، فينفتِحُ النصُّ الرِّوائيّ على أبجدياتِ الاستئناسِ بالموروثِ العُمرانيّ والثقافيّ والفِكريّ لخواصِ مقاهي شارع الحمراء في بيروت، من “الويمبي” إلى الـ “مُودكا” فـ “الكافيه دو باري”، كقاعدةٍ مركزيَّةٍ لكُلِّ الحركاتِ الثقافيَّةِ والأنشطةِ الفكريَّةِ والتحرُّريَّةِ في العالمِ العربي. هُنا، كانت طاولاتُ مقاهي شارع الحمراء منابرَ للمُناضلين الشُرفاء وقادة الدول والمُنتديات، الذين خططوا لمفاعيل الثورات التحرُّريَّة من بيروت القلب الثوريّ الخافقِ بالثورةِ والتحرُّرِ والمُطالبةِ بالعدالةِ الإنسانيَّةِ، والمُساند إلى بُلدانهم الرازحة تحت نير العبوديَّة والقمعِ والانتداب؛ كما شهدت المقاهي حركةَ التحرُّر الثقافيّ والفكريّ والدعوة إلى التجدُّدِ والتغيير الَّتي قادها الشُعراءُ والأُدباءُ والمفكِّرون والنُقَّادُ والمُضطهدون، والمُقاومون ضدّ العدو مُغتصب أرضنا، ولتكون “عمليَّة الويمبي” – وما سبقها من أحداثٍ كثيرة في مسارِ تعقيداتِ الحربِ الُّلبنانيَّةِ العقيمة – أحد أبرز المشهدياتِ النِّضاليَّةِ المُقاومةِ ضُدَّ العدوِّ الاسرائيليّ وعُملائه، والتي ستُشكِّل مُرتكزاً أساس لسلسلةٍ مجيدةٍ مِن النِّضالاتِ في مسارِ صعب ومُتأزِّم وطويل لعملياتٍ بطوليَّةٍ لاحقة على أرضِ الوطن، وفاتحةً لانطلاقةِ جبهة المقاومة اللبنانيَّةِ “جمّول” في العام 1982. غير أنَّ “عمليَّةَ “الويمبي” الَّتي تحمِلُ في طيَّاتها قيمةً معنويَّةً، وما زال فِعلُ تأثيرها حاضراً في الذَّاكرةِ الشّعبيَّةِ والسِّياسيَّةِ حتَّى يومنا هذا، عن حركةِ مُقاومةٍ شبابيَّةٍ ناضلت ضدّ احتلالِ “لؤلؤتنا” المشرقيَّةِ المتوسِّطيَّةِ، سوف تكونُ أُمثولةً عابرةً لتاريخِ الشعوب، وفي الوقت نفسه ستبقى راسخةً في ضمير الوجدان الجمعي؛ ولتنسُج “الأثير” مساراً تواصليَّاً مع البيئتين الزَّمانيَّةِ والمكانيَّةِ، على الرُّغم من اجتياحِ الرأسماليين والتُجَّار في هذا الزمنِ الرديء لشارعِ الحمراء، وتغريبهِ عن ناسهِ وقاطنيهِ ومُرتاديهِ، وليتحوَّل مقهى “الويمبي” برمزيَّتِهِ النِّضاليَّةِ إلى محالٍ تجاريَّة، فـ “ينزاحُ” الاسم عن المكان، ليُسطِّر وجودَهُ الفاعِل ضمن مسارٍ تاريخيٍّ نضاليّ خالد، مسبوك بعنفوانِ أُمَّة في وطن، دفعت الغالي والنفيس، وقدَّمت الآف الشُهداء والقتلى والمُعوَّقين والمُهجَّرين والمخفيين قسراً؛ ولعلَّ ما أفضت بهِ هذه الصورة من “الأثير” لهو خير تمثيلٍ على ما نقول: “وفي البيت غُرفٌ مُغلقةُ النَّوافذ مُجلَّلةُ بالكُتب واللوحات تتربَّصُ بالوحدة” والذِّكريات والفنِّ، بصيرورةِ الحياة .. كي تعيش بحُريَّةٍ وكرامةٍ واستقرارٍ وأمان. حتَّى تبدو مُتفرِّعات شارع الحمراء مُتهالكة، قابعةً تحت وطأة فكرة الفرار أو القطيعة، أو حتَّى الاضمحلال.   بناءً عليه، تنجلي في “الأثير” جملةٌ من المُفارقاتِ الَّتي يتضمَّنُها حاضرنا المعيوش بشتَّى معضلاتهِ، غير أنَّها ذات وظيفةٍ إضائيَّةٍ وتفسيريَّةٍ عن تاريخٍ ماضويٍّ مُؤنِس، تتخلَّلهُ مشهديَّاتُ حياة النَّاس في بيروت وحيويَّة شوارعها، فتراها مُتداخلةً حيناً، ومُتشابكةً حيناً آخر، وأحياناً مُختلفةً أو مُترابطةً كمشهدياتٍ تلخيصيَّةٍ، تُبيِّن للقارئ أو الباحث عن الحركةِ المتواليةِ للأحداثِ والتوابعِ المُتلاحقةِ للأفعالِ وردود الأفعالِ، وكيف يمكن للرِّواية أن تُعرِّي فيما هو واقع حضورعيش بطلين حبيبين، يتمثَّلان ههنا بـ “الأغلى” و”الأثير”. وبالإضافة إلى هذا كلّه، يظهرُ وقعُ الايقاع الوظيفيّ للسَّردِ والحوار الكلاميّ أو حوار- “المونولوغ الدَّاخليّ” للشخصيَّة بذاتها، والأصوات فالتمثيل المشهدي المُتَواطِئ مع الديكورِ لتأديةِ وظيفتهِ الجماليَّةِ، مع ما تُسبِغُهُ الظروفُ الموضوعيَّة والذاتيَّة وبيئةُ الحدث والزمكانيَّة واستنطاق كلِّ شخصيَّة روائيَّةٍ على حِده، أو عبرَ فاعليَّة التأثير التبادُليَّةِ ما بين الشخصيَّات والايهام، وتأزَّم المواقف، والهجران، وخاصيَّة الاسترجاع الزَّمنيّ لأحداثٍ مُتشابكةٍ أو مُتعانقةٍ بالزَّمنِ التَّاريخيّ والتفاعُلاتِ المجتمعيَّةِ أو تلك المُتنوِّعةِ بوقائعها، أو تلك المُشلَّعة ما بين أمرين إثنين: الأول، يتلخَّص بتحقيقِ لفاعليَّةٍ انسانيَّةٍ وما تُقدِّمُهُ من رؤى إيجابيَّة،؛ وثانيها: مسألتا الحضور والغياب؛ هذا ناهيك عن الإضاءةِ على بعضٍ من جوانِب العقد النفسيَّةِ – المُجتمعيَّةِ، والأمراضِ الجسديَّةِ كـ “اللأزهايمر”- “هادم اللَّذات”، في مواجهةِ الأوهام والقدرِ، ومُحاولة تجربة النسيان والأحاديَّة، والركون إلى الرَّحيل والفناءِ البشري المُوجِعين، وما تُشير إليهِ مِن رؤى سلبيَّة بحتميَّةِ الموت. ووفقاً لهذا الخطّ الدّراميِّ والأحداث المُتصاعدةِ في “الأثير”، والأسلوب المشهديّ في البحثِ عن الذَّاتِ بتفكُّكِها واتِّحادِها وِفقاً للمواقِف وتبايُناتها أثناء الحربِ الُّلبنانيَّةِ، أو عبرَ فاعليَّةِ نشاطِ الذَّاكرة الاسترجاعيّ، يكون البحثُ عن التحوُّلِ والاصغاءِ إلى الأصواتِ كافَّة، إلى جانب مُراقبةِ تشكُّلِ الايقاعِ الحركي شكلاً ومضموناً، ذاتيّاً وموضوعيَّاً، بحثاً اضافيَّاً لفهمِ مضامين المستوياتِ الخطابيَّة والأساليبِ الحواريَّةِ والسّرديَّة في “الأثير”، كي تتوضَّح للقارئ سيكولوجيَّةُ التركيبة النفسيَّة لشخصيَّاتِ الرِّواية، وللعاشقَين، وشغفهما وقلقهما الوجودي، المُتمثِّلِ بعضُهُ من وَهْمٍ وتيهٍ، وبعضُه الآخرُ من عاطفةِ “الذَّات”- بأفراحِها وأتراحِها وقلقِها الشخصيّ – المُتأنيةِ بخطواتِها حيناً والمُندفعةِ حيناً آخر، أو تلك المُتَّكِئة على شريطِ ذكرياتٍ تعمَّدت بالتضحياتِ الجمَّة، فتغورُ تفاصيلُه في “قصَّةٍ مُحاطةٍ بظروفٍ مُعقَّدةً”؛ قصَّة شوق وعناق وانعتاقٍ روحيِّ مُمسرح بين “الأغلى” و”الأثير”، لتنبُض سحراً وإدهاشاً. الدكتورة الأميرة منى رسلان أستاذة النقد الأدبيّ المُعاصر والمنهجيَّة في الجامعة اللبنانيَّة- كليَّة الآداب والعلوم الإنسانيَّة_ الفرع الأوَّل بيروت – الأربعاء 23 تشرين الثاني / نوفمبر 2022

مشاركة :