لو كنت من الرئيس «فلاديمير بوتين» لأبديت إعجابى بالرئيس الأوكرانى «فلوديمير زيلينسكى». منتهى الشجاعة أن نعترف بقدرات أعدائنا وخصومنا، حتى لو تمنينا لهم الموت حرقا فى الجحيم. أتذكر أننى سمعت من يوسف إدريس اعترافا خفف من نرجسيته الشديدة المتفجرة. سألته عن نجيب محفوظ. أجاب: إنه عملاق الرواية العربية بلا منازع ومنافسته خسارة مؤكدة لذلك ركزت كل جهدى فى القصة القصيرة حتى تميزت فيها ونجوت من سطوته على الأدب. ورغم الحرب الشرسة التى لم تنته بالموت بين هيكل ومصطفى أمين إلا أن هيكل كان يعتبر مصطفى أمين أفضل مخبر صحفى ومصطفى أمين كان يعتبر هيكل أفضل كاتب سياسى. فى مذكراته يكتب فيلد مارشال «برنارد مونتجومرى»: «لم أنتصر على فيلد مارشال «إرفين روميل» فى معركة «العلمين» عام ١٩٤٢ إلا بعد أن نظرت إليه باحترام ودرست مميزاته وبحثت عن نقاط ضعفه». بل ينسب إلى «مونتجومرى» أنه أول من أطلق لقب «ثعلب الصحراء» على «روميل». أكثر من ذلك تمنى أن يكون «روميل» بريطانيًا. وعندما انتحر «روميل» بسم «السيانيد» وصفه «مونتجومرى» بقائد عظيم. لكن «بوتين» سخر من «زيلينسكى» واستهان به وراهن على استسلامه قبل أن تطلق المدافع ليدخل الجيش الروسى «كييف» على سجاد من حرير. تحت أمطار من الزهور والقبلات. وسط ترحيب الرجال وغواية النساء. «إنها ساعات ويهرب زيلينسكى». هكذا بشرت الميديا الروسية شعبها وحكوماتها وأصدقاءها. لكن الساعات أصبحت أياما والأيام أصبحت شهورا وبات واضحا أن الحرب ستستمر سنوات. كلمة السر هنا «زيلينسكى». لم يكن هناك الكثير فى سيرة «زيلينسكى» ما ينبئ باستعداده للمواجهة والمقاومة. لم يتوقع أحد أن يقف ويقاتل. كان لتلك التقديرات ما يدعمها فهو لم يخدم فى الجيش ولم يبد اهتماما بالشئون العسكرية ولم يعرف الحرب إلا فى ألعاب الفيديو التى يدمنها. عندما انتخب رئيسا فى ٢٠ مايو ٢٠١٩ لم تكن خبراته لتزيد عن خبرات ممثل يجيد الكوميديا الارتجالية على المسرح أو الكوميديا التليفزيونية والسينمائية التى أنتج بعضها. أشهر أعماله التى شاهدناها على شبكة «نتفليكس» مسلسل «خادم الشعب» الذى يروى قصة مدرس تاريخ فى مدرسة ثانوية لا يزيد عمره عن ثلاثين عاما يفوز فى الانتخابات الرئاسية بعد انتشار فيديو يظهر فيه وهو يصرخ ضد الفساد الحكومى فى بلاده. سيناريو المسلسل الخيالى سرعان ما تحول إلى سيناريو واقعى. الشاب الريفى البسيط الذى أهمل شهادة الحقوق التى حصل عليها ليواصل جنونه بالتمثيل دون أن يطمح فى أكثر من إسعاد الناس والتخفيف عن صعوبة الحياة التى يعيشونها. بعد الشعبية التى حصل عليها بسبب مسلسل «خادم الشعب» الذى عرض عام ٢٠١٥ وجد ضغوطا من فئات شبابية ورأسمالية ونسائية بأن يحترف السياسة وأجبر على إعلان حزب باسم «خادم الشعب» أيضا. فى ٣١ ديسمبر ٢٠١٨ أعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية للعام الجديد منافسا للرئيس «بترو بوروشنكو» الذى وصف بأنه يمشى وهو نائم فى اتجاه موسكو. كانت الانتخابات صراعا معلنا بين أنصار العودة إلى أحضان روسيا الأم حتى تعيد للإمبراطورية السوفيتية زهوها ومجدها وبين أنصار الاتجاه غربا والدوران فى فلك الولايات المتحدة حيث الجينز وسجائر «مارلبورو» وفطائر «ألبان كيك» والحياة المترفة. لكن «بوتين» فهم الميل إلى الغرب فهما استراتيجيا حيث ستصبح أوكرانيا عضوا فى الاتحاد الأوروبى وتنضم إلى حلف «الناتو» ما يعنى أن موسكو ستكون فى مرمى نيرانه. ضاعف من شعور «بوتين» بذلك الخطر فوز «زيلينسكى» فى الانتخابات بنسبة (٧٣.٢٪) متغلبا عن منافسه المغطى بفراء الدب الروسى. فى تلك اللحظة بالتحديد قررت روسيا القيام بنزهة عسكرية فى أوكرانيا. كان التمهيد للحرب برسومات كاريكاتورية تحط من شأن «زيلينسكى» وتصوره مهرجا يقدم ألعابه البهلوانية أمام الجنود الروس فى قصره الرئاسى. لكن المفاجأة - الصدمة - كانت مقاومة «زيلينسكى» التى انحنت لها الدنيا كلها ومنحته لقب شخصية العام على غلاف مجلة «تايم» الأمريكية الشهيرة. فى تفسير «تايم» أن تجربة «زيلينسكى» فى التمثيل «تبين أن لها مزايا». «كان «زيلينسكى» بحكم موهبته الفنية قابلا للتكيف ومدربا على ألا يفقد أعصابه تحت الضغط. كان يعرف كيف يقرأ الجمهور ويتفاعل مع مزاجه وتوقعاته. صفقت الدنيا له. أصبح جمهوره العالم كله». «صمم ألا يخذل أحدًا بقى فى مكانه رغم احتمال اغتياله. أصبح من الصعب على أتباعه الهروب». بعد ساعات قليلة من الغزو وصف «رسلان سيتيفانتشوك» رئيس البرلمان الأوكرانى العضو الذى سيغادر البلاد بأنه «خائن» وشاهد الشعب الجلسة على الهواء. لم يهرب رجل قادر على القتال فى أوكرانيا، بل بحث الجميع عما يصلح أن يكون سلاحا وركضوا للدفاع عن بيوتهم وقراهم ومدنهم ضد قوات مسلحة بالدبابات والمروحيات الهجومية. سمع محرر «تايم» من قائد الجيش الأوكرانى الجنرال «فاليرى زالوجنى» وصفه عن مدينة كييف خلال الأسابيع الأولى للحرب: «النظرية العسكرية لم تأخذ فى الحسبان الرجال العاديين الذين يرتدون سراويل رياضية ويحملون بنادق صيد». بالقطع ما قدم الغرب من أسلحة دفاعية متطورة تجرب للمرة الأولى كان حاسما لكن ذلك الدعم لم يأت إلا بعد أن صد الأوكرانيون الهجمات الروسية بصدورهم. خشى الغرب أن يقع السلاح الأمريكى المتطور فى يد الروس إذا ما استسلمت العاصمة بسهولة، ولكنه ضاعف من مساندته ماليا وتسليحيا بعد أن تفتحت شهية أوكرانيا للقتال. لم يفاجئ «زيلينسكى» موسكو فقط، بل فاجأ واشنطن أيضا. لقد ظل «زيلينسكى» شهورا وهو يقلل من أخطار حدوث غزو روسى واسع النطاق حتى عندما حذرته وكالة الاستخبارات المركزية من أنه وشيك. لكن ما أن بدأت المعارك حتى منح جنرالاته حرية القيادة معلنا أنه «يعطى القمح لمن يطحنه» ليركز على دوره السياسى ليكون أكثر فاعلية. كان عليه إقناع العالم بأن أوكرانيا يجب أن تفوز بأى ثمن. فى الأسبوع الأول للحرب لعب دورا مؤثرا على مسرح البرلمان الأوروبى حين قال: «أثبتوا أنك معنا». «اثبتوا أنك لن تدعنا نذهب بمفردنا». «اثبت أنك أوروبى حقا». «بعد ذلك ستنتصر الحياة على الموت وينتصر النور على الظلام». لم تكن كلمات تقليدية يحفظها رئيس أو وزير أو جنرال وإنما كانت كلمات مثقف موهوب يعرف كيف يوظف كل حرف فى التأثير على مستمعيه. لكن مهما كانت الكلمات مؤثرة لا تكفى لمعرفة معدن الرجل، بل لا بد من اختبار الخطر. حسب محرر «تايم» «سيمون شستر» فإن «زيلينسكى» طلب منه أن يأتى بفرشاة أسنانه ليرافقه فى رحلة إلى مدينة «خيرسون» بعد تحريرها من الروس الذين تمكنوا منها فور بدء الحرب ووعد الكرملين بأنها ستكون جزءا من روسيا إلى الأبد. كان حراس «زيلينسكى» يحثونه على عدم التسرع بالسفر إلى «خيرسون» بعد أن دمر الروس البنية التحتية وتركوها بلا ماء ولا كهرباء ولا تدفئة وتناثرت الألغام على أطرافها واشتبهوا فى أن الروس تركوا وراءهم عملاء مخربين قد يحاولون نصب كمين للقافلة الرئاسية أو اغتيال «زيلينسكى» أو أخذه رهينة». كان الأمن ضد هذه الرحلة تماما وتقبل الأمر بصعوبة فلم يكن ممكنا السيطرة على أى شيء فى منطقة خرجت للتو من الاحتلال إلا أن «زيلينسكى» أصر عليها فى تهور حتى يفوز فى امتحان الخطر. وإمعانا فى تحديه للخطر كان «زيلينسكى» يستخدم القطار لساعات طوال فى التنقل بين مدن أوكرانيا وكل ما طلبه ضباط الأمن من الصحفيين ألا يصوروا عربة الرئيس الخاصة حتى لا يهاجمها الروس. قبل الغزو سئل «زيلينسكى»: هل تكره روسيا. أجاب: كيف أكرهها ونحن فى أوكرانيا نتقاسم الثقافة والحضارة معا؟ يدين «زيلينسكى» فى كثير من أعماله الفنية إلى الكوميديا السوفيتية المذهلة ويعترف بأنه تأثر بأفلام «ليونيد جايداى» التى لا تزال ساحرة ومضحكة. لكن بعد الغزو تمرد «زيلينسكى» على ذكريات شبابه بسبب ما فعلت روسيا ببلاده وشعبه. ما أن مر شهران على الغزو حتى شعر «زيلينسكى» أنه تقدم فى السن عشرين سنة. تمتع بحكمة لم يكن ليرغب فيها على حد قوله. لم يعد خفيفا كما كان. ساخرا كما كان. أصبح قويا. لا تضايقه الإهانات. لا تثير أكثر من هز كتفيه. يفتقد أصحابه النسخة القديمة منه. الجوكر المرح. ذو الابتسامة الصبيانية. لكنهم يقدرون تحوله إلى شخص أكثر صعوبة. من الصعب إلهائه عن هدفه وهو النجاة ببلاده. استفاد «زيلينسكى» من شهرته الفنية وشارك فى منتدى «ديفوس» للاقتصاد العالمى وقمة الناتو فى مدريد ودخل فى مناقشات مفتوحة مع طلاب جامعات «هارفارد» و«ستانفورد» و«ييل» الأمريكية ليحصل على دعم دولى. حسب «تايم»: «اعتمد زيلينسكى» كقائد ولد فى نيران الحرب على حقيقة أن الشجاعة معدية. انتشرت الشجاعة عبر القيادة السياسية الأوكرانية فى الأيام الأولى للغزو حيث أدرك الجميع أن الرئيس لن يهرب. إذا كنت تعتقد أن هذا يبدو شيئا طبيعيا لقائد خلال أزمة ما فكر فى سابقة تاريخية قبل ستة أشهر فقط حين فر رئيس أفغانستان «أشرف غنى» ــ وهو زعيم أكثر خبرة بكثير من زيلينسكى من عاصمة بلاده مع اقتراب قوات طالبان. وفى عام ٢٠١٤ هرب الرئيس الأوكرانى «فيكتور يانوفيتش» من كييف حين اقترب المتظاهرون من قصره. لا يزال يعيش فى روسيا إلى اليوم. وفى وقت مبكر من الحرب العالمية الثانية فر قادة ألبانيا وبلجيكا وتشيكوسلوفاكيا واليونان وبولندا وهولندا والنرويج ويوغوسلافيا من بلادهم وعاشوا فى المنافى». لكن «زيلينسكى» آخر من توقع أن يهرب بقى. آخر من توقع أن يقاوم صمد. أثبت ممثل الكوميديا الارتجالية أنه أقوى من كل حكام العالم الذين فروا ساعة الجد. على أنه يرى مشوار النصر طويلًا ويحتاج إلى تضحيات لا حد لها. وبكل تواضع يقول: «إن الحكم علينا سيكون فى وقت لاحق لم أنته بعد من العمل الكبير والمهم لبلدنا». هل سيقرأ «بوتين» عدد تايم الذى عليه صورة زيلينسكى شخصية العام أم لن يجرؤ مساعدوه على تقديمه إليه مع قهوة الصباح؟ لو قرأ «بوتين» التايم بقلب صافٍ وذهن متفتح سيعترف ولو بينه وبين نفسه بقدرات خصمه وساعتها ربما يبدأ بجدية مفاوضات السلام بين روسيا وأوكرانيا.
مشاركة :