الغذامي لـ«عكاظ»: دفعت ثمنًا باهظًا مقابل «الخطيئة والتكفير»

  • 1/23/2016
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

ستصافحكم «عكاظ» كل سبت باستعراض أهم الكتب الأكثر إثارة للجدل في مشهدنا الثقافي والأدبي طيلة ربع قرن مضت على مستوى النقد والإبداع شعرا وسردا والفكر والفلسفة وحتى الآثار والدراسات الأنثربولوجية، وفي أولى حلقات هذه الزاوية نعود بكم إلى الثمانينيات من القرن الميلادي الماضي لنستعيد أول الكتب الأكثر جدلا في تلك الحقبة وهو كتاب الناقد الأكاديمي الدكتور عبدالله الغذامي «الخطيئة والتكفير» وهو أطروحة دكتوراة. ولطالما حذرني رفاق مرحلة الصحوة منه كونه مدعاة لتلويث فكري بسموم العلمانية التي تشوش الفكر وتخلخل العقيدة وتبلبل صفاء الذهن. وربما لهم عذرهم كونهم لم يقرؤوا الكتاب ولن يقرؤوه كما أظن ولأنهم يعملون على أسلمة الكون والحياة وهم أبعد ما يكونون عن دراسة بنيوية تشريحية لآثار الأديب الراحل حمزة شحاتة، فيما يرى البعض أن الخطورة في التسمية كون الغذامي لو اختار «الذنب والتوبة» ذات الطابع الإسلامي لكان جديرا بالقراءة والاقتناء كما يزعمون، ولتسليط الضوء على الكتاب منذ كان فكرة نستضيف مؤلف الكتاب الدكتور الغذامي ونحاوره في هذه المساحة : • من أين جاء العنوان «الخطيئة والتكفير»؟ •• هو من مقولة «الشحاتية» أي منظومة الصيغ المكونة لخطاب حمزة شحاتة والتي تتصاعد مع حس عنيف عنده برغبته في أن يصلح اعوجاج الذهنية البشرية، ومع عجزه عن تحقيق هذا الهدف، عاد لنفسه ليعيش حس الخيبة بالنموذج البشري، حتى صارت محاضرته «الرجولة عماد الخلق الفاضل» بمثابة سيرة سيكولوجية له، وتحول إلى بطل للنص، كأن تصبح أنت بطلا لمسرحية كنت كتبتها وصرت تمثلها حين أعياك وجود ممثل يصلح للدور، وانعكس عليه هذا الحس بأن صار رافضا لأنماط المجتمع كلها، وكأنما يعاقب نفسه على أخطاء غيره، وهذه خلاصة معنى «الخطيئة» بوصفها تعبيرا عن عيوب المسلك في ما بين الناس والناس، وهي خلاصة معنى «التكفير»، حيث صار شحاتة نفسه يقسر ذاته قسرا لكي يتأدب بما عجز عن تأديب الناس به، وبالتالي هي «الشحاتية» كما شرحتها في الفصل الثاني من الكتاب . • ألم تخش من دلالة العنوان ورمزيته ؟ •• بلى خشيت وما زلت، وإن كنت أعرف سلفا، واتصالا، أن سوء الفهم أمر لازم يلاحق أي فكرة أو قول نقوله، تماما كحسن الفهم أو اعتداله، يجري هذا مع الأقوال البسيطة واليومية، ويتعقد أكثر وأكثر كلما تعقدت المقولة، وهذه حقيقة نصوصية تمس كل نص ينتجه بشر، ويمتد أيضا لكل ما يقرأه البشر، تبعا لتنوع الأفهام وتنوع المقاصد. • من أشرف على الأطروحة التي تحولت إلى كتاب ؟ •• رجل عجيب غريب يشبهني، اسما وصفات وذهنية ولغة، وهو كائن عجائبي يحكي مثل ما أحكي ويفكر مثل ما أفكر ويكتب مثل ما أكتب لدرجة أني لا أعصي له أمرا ولا يعصي لي أمرا، وكأن ميزته أني متى ما عصيته فإنه يقبل مني العصيان، ثم يتصرف حسب نهيي وأمري له، وللحق فإني أتعبته بمثل ما أتعبني، وقبلته بمثل ما قبلني ! هذا هو المشرف العجيب الغريب. • كيف وظفت نظرية غربية على نتاج مشرقي ؟ •• أنا أكتب لك الآن بنية إرسالها إليك عبر «الإيميل» هذا الغربي المستعجم اسما وصناعة، ولكني وجدته يوصلني إليك.. وكذا هي النظرية بعامة، صبغتها إنسانية وتتحرك بلا تأشيرات ولا كفيل.. وكلما ساعدتك على الوصول لمبتغاك أخذت بها، تماما كحالي وحالك حين نصل لبعضنا بمهارة فائقة عبر ضغطة زر، ولا نسأل عن جنسية الوسيلة ولا نطلب صورة من دفتر إقامتها.. ولنقل إنه العلم يخدمك كلما أخذته مأخذ الجد. • ما أبرز الصعوبات التي واجهتك ؟ •• كل المشروع كان صعبا وقاسيا، ولقد أخذ مني 14 شهرا في أمريكا كي أصوغه كتابة «من بعد سنوات من رصد المادة العلمية المنهجية»، كنت أعمل يوميا من التاسعة صباحا حتى الخامسة مساء، وكأني موظف في شركة، وكان لي صديق يستغرب من قسوتي على نفسي، ويقول لي : ما الذي يزعجك، أولست تحت وازع شخصي ولا آمر أو ناهي لك غير نفسك، وكنت أرد عليه بالجواب المتوقع في مثل هذه المواقف بأني : أستلذ بتعذيب ذاتي، وهي ألذ صيغ تربية الذات، ولكني ــ والله ــ قد دفعت ثمنا باهظا على صيغة أرق متصل، لدرجة أني أتيقظ الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وأجدني أهذي بكلمات وكأني أكتب في مسودة الكتاب، وكانت زوجتي تقلق معي وعلي، ومرة أحسست أن أصابعي تكلست، وأنا أحاول فك القلم الذي تيبس بينها بسبب نسياني لنفسي واندماجي مع الكتابة غافلا عن أثر طول الكتابة على أصابع اليد وتثنيها على القلم، ومرت سويعات وأصابعي تعاني من التيبس وتشنج الحركة، وبعد ذلك اليوم صارت زوجتي لا تغفل عني، حيث تطل على مكتبي في البيت وتقدم لي كأس ماء وترقبني كي لا أتركه على الماصة دون تناول، وهذا جعلني أتنبه وآخذ نفسا وأتحرك قليلا بعيدا عن الماصة، ثم أعود وقد نشط الدم في عروق أصابعي. كل هذا تحول الآن لذكرى أرويها وأطرب لها، والحمد لله. • هل توقعت ردود الفعل على الكتاب ؟ •• إن كنت تقصد ردود الفعل الساخطة التي بلغت حد التكفير والتفسيق والطعن بالأمانة العلمية فسأقول لك لا.. لم يخطر ببالي شيء من هذا ولا بنصفه أو ربعه، لم أتوقعه وبشكل قاطع، ولم يك لي من سبيل بأن أتوقع أن الأستاذ محمد عبدالله مليباري يكتب 30 مقالة عن كتابي وهو يعلن في الوقت ذاته أنه لم يقرأ الكتاب ولا يريد قراءته، رحمه الله وغفر له لقد فتح بهذا سكة سلكها أقوام من بعده، مثل صاحب شريط الحداثة وصاحب كتاب الحداثة في ميزان الإسلام، حتى سرت الركبان بالحديث عن كتابي تحت مظنة تصديق الثقات الأفاضل، ولكن هؤلاء الثقات ــ مع فضلهم ــ لم يقرؤوا الكتاب، وتركوا ثقافة الظنون تسير، وهذا ما شكل حالة من التجهيل الثقافي وحرموني من رد الفعل العلمي والجدل المعرفي، وكأننا صرنا نصرخ في فراغ الثقافة، وجعلتني بعد عقود زمن ما بعد الكتاب لأقول إني، لم أقل ولم أقل، بدلا من أن تنمو مقولات تفيد كل الأطراف في سباق معرفي يثري الرؤى ويؤسس للمنهجية في فضائها الفسيح. • لماذا حمزة شحاتة ؟ •• نعم، هذا سؤال وارد بكل تأكيد، وكنت قد وضعت في احتمالاتي أن أطبق النظرية النقدية الألسنية على المعري أو جبران أو شحاتة، وفي الأشهر الثلاثة الأولى من سنة التفرغ التي أمضيتها في أمريكا كنت على وشك أخذ نموذج جبران، لأني كنت قد غادرت جدة في صيف 1983 على وعد من شيرين حمزة شحاتة بأن تمدني بمخطوطة ديوان والدها ــ والديوان حينها لم يكن ظاهرا إلا بمقطوعات يسيرة هي جزء ضئيل لا يمثل الكل مما يجعل التصور ناقصا ــ ولقد ذكرت قصة وصول الديوان إلي في كاليفورنيا مطلع العام 1984، وهي قصة كانت محملة بالدهشة والإثارة، ومقالي عنها منشور في جريدة الرياض بعنوان «حمزة الشحاتة : وتمت الدراسة» والعنوان يحكي قصة الحدث، ولولا تلك اللحظة المدهشة لصرنا ــ انا وأنت ــ نتحدث الآن عن كتاب في تشريح خطاب جبران خليل جبران. ولعل الراغب من قرائنا هنا ينظر في قوقل عن عنوان المقال ليعرف القصة وأثرها علي وعلى مشروعي. • هل هناك تقاطع بين شخصيتك وشخصية حمزة شحاتة؟ •• سأروي لك حالة مرت بي، وكنت في مكتبتي أكتب في الفصل الثاني، واندمجت مع النص لدرجة أحسست فيها أني تسللت إلى قلب حمزة شحاتة ونسيت نفسي تماما وأنا أسابق حركة أصابعي مع القلم وكلماتي تتسابق مع دموعي، نعم لقد كنت أبكي وأكتب وأخاتل دمعي كي أرى مواطئ الكلمات على الورق، وصارت الخامسة وهي حدي مع العمل اليومي للبحث، ولكني نسيت نفسي، ولم تنبهني زوجتي لموعد النهاية وموعد طاولة الطعام، وتركتني حتى فرغت تلقائيا قرب السادسة، ثم ذكرت لي أنها رأتني منهمكا وكرهت أن تكسر حالة التماهي مع الكتابة كما لاحظت دمعي واضطراب يدي على الصفحة. تلك هي حالتي وسيرتي مع حمزة شحاته. • أيمكن أن نقول عن الكتاب إنها عتبة لمشروعك الثقافي ؟ •• نعم هو أول كتاب لي، وإن سبقته بحوث علمية منشورة في مجلات أكاديمية وفي مؤتمرات، ثم جمعتها لاحقا في كتاب سميته : الصوت القديم الجديد، وهو يضم البحوث التي تناسب التحكيم الأكاديمي التقليدي، وهي سابقة على الخطيئة والتكفير، ومنشورة قبله في صيغ مفردة، كل بحث في مجلة، أما الخطيئة والتكفير فهو الكتاب الذي حسمت فيه أمري مع المنهجية النقدية التي أرتضيها لنفسي، متمردا على الشرط الأكاديمي التقليدي. • متى تعود إلى هذا الكتاب، ولماذا ؟ •• من طبعي أني أكره العودة إلى أي من كتبي، وإذا فرغت من الكتاب فإن آخر عهدي معه هو مراجعة البروفة الأخيرة حين يرسلها الناشر لأخذ موافقتي النهائية على الكتاب، وهي نهائية بالمعنى التام، فكل كتاب من كتبي هو كما تركته في آخر بروفة، ولا تطيق نفسي قراءة ما فرغت منه وأضيق حقا بالعودة لدرجة أني أكررها، ولكن عدت مرة إلى الفصل الثاني من «الخطيئة والتكفير» بعد صدوره بأشهر بنية البحث عن الصفحة التي شهدت دموعي حين كتبتها، لكني لم أستطع تمييزها من بين سائر الصفحات، وكل ما أعرف أني بكيت في موقع ما من ذلك الفصل، ثم تاهت دمعاتي هناك، ربما لأنها لا تريد أن أكشفها للناس، وتبقى خصوصية خاصة جدا بيني وبين روح حمزة شحاتة، تغمده الله بواسع رحمته، ورحم الله شيرين ابنته، فهي من ضمنت إنجاز العمل ــ حسب قصتي مع وصول الديوان المخطوط.

مشاركة :