في كتاب جمهورية الخيال أميركا للكاتبة الإيرانية آذر نفيسي الصادر عن منشورات الجمل 2016، ترجمة علي عبدالأمير صالح، تقدم قراءة عميقة للمجتمع الأميركي من خلال ثلاثة أعمال أدبية، وهي مغامرات هكلبيري فين للكاتب مارك توين الصادرة عام 1885، ورواية با بيت للكاتب سنكلير لويس الصادرة 1922، والحاصل على جائزة نوبل للأدب عام 1930، ورواية القلب صياد وحيد للكاتبة لكارسون ماكالرز الصادرة عام 1940، وتختم كتابها بالحديث عن الكاتب والشاعر والمسرحي جيمس آرثر بالدوين «1924 ــ 1987». وقد يتساءل من لم يقرأ الكتاب لماذا اختارت الكاتبة آذر نفيسي أعمالا أدبية ولم تقرأ أميركا من خلال تاريخها السياسي، حيث ذلك أسهل، وقد أجابت هي في مقدمة الكتاب إذ قالت : القصص ليست مجموعات متواصلة من الخيال الجامح «الفنتازيا»، أو أدوات السلطة والهيمنة السياسيتين. إنها ــ أي القصص ــ تربطنا بماضينا، وتزودنا بفهم انتقادي لحاضرنا، وتجعلنا قادرين على تصور حياتنا ليست كما هي بل كما يجب أن تكون، أو كما يحتمل أن تغدو عليه. إن المعرفة الخيالية ليست شيئا تمتلكه اليوم وتتخلص منه غدا. إنها طريقة لفهم العالم وتكوين صلة معه. قال بريمو ليفي «1919 ــ 1987» ذات مرة : إنني أكتب كي أجدد اتصالي بالمجتمع الإنساني. القراءة فعل شخصي، لكنه يربطنا عبر القارات وعبر الأزمنة. كذلك يلفت نظرك وهي تقرأ الأدب الأميركي وكأنها تضع خطوطا على أهم قضايا العالم الثلاث: الحرية، المساواة، تهميش دور الثقافة والفن، تنمية الخيال. وهي تقول : الخيال والآراء ليست أشياء إضافية «اكسسوارات»؛ إنها أشياء ضرورية للحفاظ على الهوية، وضرورية لما يجعلنا آدميين ينعمون بحق الحياة، والحرية، ويبحثون عن السعادة. ونجدها وقد أولت للخيال اهتماما كبيرا في كتابها وتصفه بأنه هو الأزمة الحقيقية، إذ تقول : إن الأزمة التي تقلق أميركا ليست أزمة اقتصادية أو سياسية؛ ثمة شيء أعمق يحدث الخراب عبر البلد بأسره، وهو وضع جشع ومنفعي يكشف بوضوح تعاطفا قليلا مع خير الشعب وسعادته الحقيقية، وهو وضع يطرد الخيال والتفكير، ويطبع الشغف بالمعرفة بطابع لا صلة له بها. وتلك الروايات يفصل بينها عقود كثيرة، فبين هكبير فين وبابيت 37 عاما، وبين بابيت والقلب صياد وحيد 18 عاما، وكأنها أرادت قراءة تلك التحولات التي مر بها المجتمع الأميركي، ففي مغامرات هلبيري فين يركز مارك توين «1910 ــ 1835، على أهم القضايا وهي قضية الهنود الحمر التي قامت اميركا على أنقاضهم. ويذكر المجتمع الأميركي فيهم قائلا : لكن أين هم أسلافي؟ من هؤلاء الذين يتعين علي أن أحتفي بهم ؟ في أي مكان أحتفي بهم ؟ أين سأجد المادة الخام ؟. وهو في هذا المقطع من الرواية ينتقد بشدة تلك الإبادة وأنها بصمة عار سوف تبقى في جبين اميركا، ويتابع: إن سلفه الأميركي الأول كان الهندي المبكر أسلافكم سلخوا جلده وهو حي، وأنا يتيم. ما من قطرة من قطرات دم تجري في عروق ذلك الهندي في يومنا هذا. إنني أقف هنا وحيدا بائسا، من دون سلف. والقضية الثانية وهي المركزية العنصرية، وتعلق آذر نفيسي على استخدام مارك توين كلمة الزنجي الحقير (نيغر) 219 مرة وكيف رأى ناشر حسن النية على عاتقه حذفها كي لا تجرح مشاعر القراء الحديثين الحساسين، إذ تقول : في المجتمع الديمقراطي نحن لا نمارس الطرائق الوحشية للنظام الاستبدادي، لكن نجد طرائق جديدة ومؤذية للتعبير عن انحيازاتنا. إن غاية التعليم هي نقل المعرفة، والمعرفة ليست معرفة هرطقية فقط بل معرفة لا يمكن التنبؤ بها، وفي كثير من الأحيان غير مريحة. يتعين على المرء أن يتوقف قليلا ويتخيل ماذا يعني أن نخضع للرقابة كل ما هو غير مريح في نصوصنا كيف يمكن أن تطمح في تدريس التاريخ، إن لم يكن باستطاعتك أن تواجه الماضي كما هو عليه ؟، وتستشهد في قول الكاتب مارك توين لتضع القارئ أمام الصورة الحقيقية للمجتمع الأميركي في تلك الحقبة، إذ يقول : جميع الزنوج كانوا أصدقاءنا، وكنا رفاق أولئك الزنوج الذين في مثل أعمارنا.. كنا رفاقا، ومع ذلك لسنا رفاقا؛ اللون والحالة كانا يدخلان بيننا خطا دقيقا كان كلا الطرفين يشعران به، وكان يجعل الاندماج الكلي بيننا أمرا مستحيلا. أخي القارئ، وأنت تقرأ تلك الكلمات ألا تدمع عيناك وتتذكر الحالة التي يعيشها المجتمع العربي والإسلامي «الطائفية» تلك الأداة التي مزقت الشعوب وأشعلت الحروب وجعلت الإخوة أعداء، لقد تخلص المجتمع الأميركي من العدو الأول «العنصرية» وتبوأ مكانة لم يتبوأها أي مجتمع، بفضل العلم واحترامه للإنسان وللأدب والفن وإعطاء الخيال ما يستحق من الاهتمام، وهي رسالة توجهها الكاتبة إلى العالم الثالث، إذا لم تستوعب الدرس ستبقى في مكانك وتتقدم الأمم التي تحترم الحياة.
مشاركة :