هناك انقسام واضح بين المثقفين المصريين في النظر إلى ثورة 15 كانون الثاني (يناير) 2011. ويمكن القول إننا أمام وجهتي نظر، كل منها يقدم أسبابه ويستند إلى حقائق على الأرض ودلائل منطقية. وعليه؛ نعرض وجهتي نظر ونحاول الوصول إلى تقويم موضوعي لهذا الحدث التاريخي الذي، سواء شئنا أم أبينا، هو نقطة تحول في تاريخ مصر الحديث. وجهة النظر الأولى تؤيد ثورة يناير وتعتبرها حتمية تاريخية لتطورات سلبية ألمَّت بالنظام السياسي المصري الذي تدهور إلى هوة سحيقة نتيجة سيطرة المال السياسي على مجريات الأمور، فأصبح القرار خاضعاً لرغبات حفنة من رجال الأعمال ولم يستطع نظام حسني مبارك في سنواته الأخيرة إلا أن يستجيب لهم. وأضحى أمر توجيه الحزب الحاكم بيد هؤلاء أصحاب السلطة والمال، ما أدى إلى فتح الباب لتنامي ظواهر سلبية في المجتمع، من بينها الفساد، فضلاً عن أكثر من ثلاثين عاماً من تجريف وعي المواطن، انهارت معه منظومة كاملة من قيم الحق والعدل الاجتماعي والكرامة الإنسانية. وساد المجتمع ما يمكن وصفه بقيم العشوائيات، الأمر الذي أدى الى انتشار قنابل موقوتة ساهمت في شكل أو في آخر في تسريع سقوط النظام. بعبارة أخرى، يمكن القول إن ضعف الحكم وسيطرة المال السياسي وانتشار الفساد الاقتصادي والاجتماعي، بالإضافة إلى تعاظم أصوات المعارضة في الشارع، وعبر كثير من قنوات الإعلام الخاص ومن خلال العالم الافتراضي لشبكة المعلومات الدولية، خصوصاً مواقع التواصل الاجتماعي... كل هذه كانت عوامل قادت إلى نمو رغبة حقيقية لدى الشعب المصري للتغيير، ومن ثم عندما جاء يوم 25 يناير تحولت الرغبة هذه إلى عمل فاعل اتسم بالشمول وعبر عن إرادة جماهيرية. وعليه كانت ثورة 25 يناير نقطة تحول في تاريخ مصر الحديث سواء شئنا أم أبينا. أما وجهة النظر الأخرى فإنها لا تعترف بما حدث على أنه ثورة حقيقية إنما كان مؤامرة مدبّرة في الخارج وتم تنفيذها بأيدي عناصر في الداخل استهدفت إسقاط الدولة المصرية واستغلت معاناة الجماهير في تنفيذ مخططها. وأكبر دليل ما حدث بعد 28 كانون الثاني (يناير) من انهيار المؤسسة الأمنية وتدخل القوات المسلحة لإنقاذ البلاد من المؤامرة. واستندت وجهة النظر هذه إلى قيام المجلس العسكري بتسليم الحكم إلى جماعة «الإخوان» الذين سيطروا على المشهد السياسي ولكنهم استغلوا الموقف وحوَّلوه لمصلحتهم كجماعة، بصرف النظر عن مصالح الوطن، وذلك بعد فوزهم في الانتخابات التشريعية ثم وصول أول رئيس منهم إلى سدة الحكم في 30 حزيران (يونيو) 2012. وعلى رغم أن «الإخوان» حصلوا على أندر فرصة ذهبية للحكم في تاريخهم الذي يمتد إلى أكثر من ثلاثة وثمانين عاماً، إلا أنهم فشلوا فشلاً ذريعاً في استغلالها وأدخلوا مصر إلى نفق مظلم نتيجة جهلهم بالعمل السياسي، وسوء إدارتهم لأمور البلاد وتعاملهم معها بأساليب التخوين والعمل السري وتنظيمات تحت الأرض. وقد لمستُ ذلك عن قرب خلال عملي رئيساً لقطاع الأخبار في اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري بين 2011 و2013 وقمت بتسجيل شهادتي عن هذه الفترة في كتاب أصدرته العام الماضي. وما يعنينا في هذا المقام هو ما أوردته في الكتاب عن أن الموقف الذي عاشته مصر في ظل حكم «الإخوان» أدى إلى تصاعد حاد في حجم الاستقطاب السياسي، وهو ما مهد لقيام ثورة جديدة في الثلاثين من حزيران (يونيو) عام 2013. ومن هنا يرى أصحاب رأي أن ثورة يناير مجرد مؤامرة وأن ثورة يونيو إنما جاءت لتجهض «مؤامرة 25 يناير»؛ على حد تعبيرهم. ونلاحظ أن الرأي الأول المؤيد لثورة 25 يناير استند في تكوينه إلى تحليله للوضع الذي آل إليه الحكم في مصر ورأى أن الحل كان في التغيير بإرادة الشعب. بعبارة أخرى، أقام موقفه على أسباب يناير ولم يعنه ما نتج عنها من تبعات، وربما لم يلتفت أيضاً إلى التغيرات الإقليمية التي كانت تسير في اتجاه واضح معادل لاتجاه التغيير المطلوب نفسه. فكانت «ثورات الربيع العربي» التي بدأت في تونس بإسقاط حكم الرئيس زين العابدين بن علي في كانون الأول (ديسمبر) 2010 ثم انتقلت الشرارة إلى مصر، وهو تطور كان متسقاً تماماً مع إرادة الشعب المصري! ويرى الرأي الرافض لثورة يناير، ويضم بين صفوفه بعضاً ممن يتعاطفون مع الرئيس حسني مبارك، أن أحداث يناير أسقطت نظاماً ولم تقم نظاماً جديداً، لأن الهدف كان توجيه ضربة للدولة المصرية. واستند هؤلاء إلى نتائج يناير وليس أسبابها، وفسّروا التطورات اللاحقة لعزل مبارك على أنها نتاج مؤامرة، لاسيما على الصعيد السياسي والاقتصادي والأمني ولكنهم لم يبدوا رأياً بخصوص أن هذه الأوضاع الصعبة لم تأت من فراغ، إنما هي تراكم سنين طويلة من حكم شابَه الكثير من المفاسد، خصوصاً في سنواته العشر الأخيرة. وبعض الذين يؤيدون نظرية المؤامرة يرجعون موقفهم أيضاً إلى أن جماعة «الإخوان» لا تعترف إلا بثورة يناير، وأتصور أن هذا طبيعي لأن ثورة يونيو أسقطتهم وهم الذين وظَّفوا ثورة يناير لمصلحتهم وليس معنى أن الإخوان تؤيد يناير فيصبح على الآخرين أن يرفضوها. مما تقدم أرى أن التغيير في 2011 كان ضرورياً في مصر، بثورة أو بغيرها. وقد حدث ذلك فعلاً بإسقاط نظام مبارك الذي أُجبر على تقديم استقالته نزولاً عند رغبة الجماهير. وإحقاقاً للحق وبغض النظر عن موقفنا من مبارك، فإن الرجل لم يكابر سواء أُجبر على الاستقالة أو أنه بإرادته قرر الانسحاب من المشهد. ولكن بعد 11 شباط (فبراير) 2011 كان يجب أن تتحول الثورة إلى بناء الدولة الجديدة، وهذا لم يحدث. ويرجع السبب إلى أن الثورة كانت شعبية بلا رأس أو قيادة، ومن ميدان التحرير تعددت القيادات حتى وصل عدد الائتلافات إلى أكثر من 200 ائتلاف وكل واحد منها يتحدث باسم الثورة. من هنا كان من الطبيعي أن يستغل البعض حالة «الفوضى الثورية» ويركب الثورة أو بعبارة أوضح يسرقها، وسط من قام بها جهاراً نهاراً. وهذا لا ينفي أنها ثورة، ومن ثم عندما تأتي بعد ثلاث سنوات ثورة أخرى، تستردها ولا تجبّها لأن الأحداث التاريخية لا تلغى بتواتر غيرها. إذاً «25 يناير» ثورة تعرضت لمؤامرة سرقتها وتمَّ استردادها بثورة «30 يونيو». * كاتب مصري.
مشاركة :