عند تحقيب السياسة العربية الحديثة، يمكن الحديث عن ثلاث حقب: 1- ما بعد انهيار الدولة العثمانية سنة 1918، 2- ما بعد تموز (يوليو) 1952، 3- ما بعد سقوط بغداد بيد الاحتلال الأميركي سنة 2003. ضمن الحقبة الأولى يأتي قيام دولة إسرائيل في 1948، وضمن الثانية تقع هزيمة 1967 وحروب 1973 والحرب العراقية- الإيرانية وحرب 1982 وحرب 1991. في 9 نيسان (أبريل) 2003 انتهى النظام الإقليمي العربي الذي بدأ مع نهاية الحرب العالمية الثانية وكانت الناصرية ذروة قوته حتى صباح 5 حزيران 1967. لا يمكن القول إن ما يسمى بـ «الربيع العربي»، الذي بدأ بتونس ومصر بالشهرين الأولين من سنة 2011 ثم امتد إلى اليمن وليبيا وسورية خلال شهري شباط (فبراير) وآذار (مارس) 2011، هو بداية حقبة جديدة، بل هو ترجمة في دواخل بلدان عربية جمهورية لانهيار النظام الإقليمي العربي مع سقوط بلاد الرافدين بيد الغازي الأميركي قبل ثماني سنوات، تماماً كما كان انهيار النفوذ الدولي والإقليمي لموسكو السوفياتية سنة 1989 مقدمة لانهيار البناء الداخلي للاتحاد السوفياتي في الأسبوع الأخير من سنة 1991. أظهر سقوط بغداد سنة 2003 بأن هناك انتقالاً للقوة إلى خارج العرب، الذين أصبحوا في حالة فراغ للقوة، نحو الجوار الإقليمي في إيران وتركيا، بالتزامن مع عودة الاحتلال الغربي لأرض عربية من جديد. كان ملفتاً أن يحصل الانفجار الداخلي العربي في البلدان الخمسة المذكورة ضمن إطار الأنظمة الجمهورية، وأن لا يشمل ذلك أنظمة ملكية، وكذلك أن لا يستطيع الداخل التحكم بالمسار المحلي بعد ذلك الانفجار بل الخارج الدولي- الإقليمي، ما عدا الاستثناء التونسي. انتصر النظام القديم في تونس ومصر إثر هزيمة الإسلاميين خلال سنة 2013. تصوملت ليبيا ما بعد القذافي. عاد علي عبدالله صالح بالتحالف مع أعدائه القدامى، أي الحوثيين، لكي يسيطر على صنعاء في أيلول (سبتمبر) 2014. في سورية فشلت المعارضة في تكرار تجارب تونس ومصر أو في تحقيق انتقال متفق عليه مع النظام، كما جرى في صنعاء في تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 وحتى شباط (فبراير) 2012، وكذلك على رغم سعي بعض المعارضة السورية إلى تكرار السيناريو الليبي للناتو ضد القذافي. كانت قوة الانفجار الداخلي أقل في البلدان ذات التركيبة الموحدة (تونس) أو شبه الموحدة (مصر) من النواحي القومية والدينية، فيما في بلد مثل ليبيا، حيث لا توجد سوى أقلية صغيرة من الخوارج ومثلها من البربر فيما الغالبية عربية وعلى المذهب السنّي المالكي، كانت الصراعات متراصفة جهوياً بين شرق وغرب وفق التقسيم القديم بين برقة وطرابلس الغرب، وقبائلياً حيث حددت القبيلة الكثير من اتجاهات السياسة الليبية ما بعد القذافي. في اليمن تداخلت العوامل الطائفية بين زيدية وشافعية مع العوامل الجهوية: المشكلة الجنوبية. في سورية كان الحراك المعارض أساساً في الريف السني، فيما في المجمل وقف سنّة دمشق وحلب مع النظام وكذلك مجمل الأقليات الدينية والمذهبية، فيما كان الأكراد (7- 9 في المئة) حالة خاصة حين مارسوا حراكهم الخاص واستطاعوا استثمار الأزمة السورية، مثلما استثمروا الأزمة العراقية قبيل وما بعد 9 نيسان 2003، من أجل محاولة فرض أجنداتهم الخاصة. في تونس ومصر كان العامل الأيديولوجي: بين إسلاميين وغيرهم من يساريين وعلمانيين وحداثيين أو أنصار النظام القديم، بارزاً في تلوين المشهد السياسي، أما في البلدان الأخرى، فقد كان هذا العامل الأيديولوجي متراكباً مع عوامل أخرى عند الإسلاميين وعند خصومهم. هنا، يلفت النظر ركوب منظمات مثل «القاعدة» و «داعش»، وقدرتهما على استثمار الأزمات السورية واليمنية والليبية. في المقابل كان ملفتاً للنظر انفلات العنف والقدرة على إظهاره في مجتمع مثل المجتمع السوري، فاق ما أظهره الجزائري في مرحلة ما بعد انقلاب 1992 والعراقي ما بعد 9 نيسان 2003، ثم ما ظهر في اليمن ما بعد 20 أيلول 2014، لتتبعهما ليبيا، فيما كانت مصر، على رغم سيناء، أقل عنفاً وأكثر تماسكاً على رغم الصدام القوي بين الإسلاميين وخصومهم في مرحلة ما بعد 3 تموز 2013، بينما كانت تونس، على رغم بعض العنف السلفي، الأكثر استقراراً. في هذا الصدد، كانت تونس الوحيدة في تأمين التسوية المحلية حتى بين الإسلاميين من «حركة النهضة» وبين أنصار النظام القديم في «حركة نداء تونس». في البلدان العربية الأربعة الأخرى كانت جسور التسوية المحلية مكسورة. في القاهرة لا تظهر ملامحها، فيما في دمشق وطرابلس الغرب وصنعاء يحمل العامل الدولي التسوية بحكم عدم قدرة (المحلي) على التلاقي الذاتي. يلفت النظر في هذه البلدان الأربعة تقطُّع الجسور المحلية وعدم القدرة على إنتاج تسوية داخلية أو إيجاد حل وسط في أزمات من الاستعصاء الداخلي لا يستطيع فيه طرفا الأزمة التلاقي، بعد أن عجز كل منهما عن التغلُّب على الآخر. مثل عراق ما بعد 9 نيسان 2003، حين لم يستطع العراقيون الاتفاق على «عراق جديد» لتصبح طهران اللاعب الأقوى في بغداد نتيجة لذلك، فإن روسيا في دمشق ستكون كذلك منذ تدخلها العسكري في 30 أيلول 2015 بعد تحجيمها للنفوذين الإيراني والتركي في سورية. لن يكون الأمر في اليمن بعيداً من هذا لمصلحة أن تكون الرياض الرقم واحد في صنعاء، ولا في ليبيا حيث تتزاحم روما مع باريس، وإقليمياً القاهرة مع الجزائر، على النفوذ، حيث تدعم الأخيرة للمفارقة، وهي الخارجة من صدام دموي مع الإسلاميين المحليين، الإسلاميين في طرابلس الغرب ضد الشرق المدعوم من القاهرة. في المجمل، لم يكن «الربيع العربي» ربيعاً بل كان خريفاً طوى مشهداً داخلياً بدأ جنينه مع نهاية الحرب العالمية الثانية في سنة 1945 ثم بدأ بالولادة في مرحلة ما بعد 23 تموز 1952 قبل أن تموت حقبته في 9 نيسان 2003. على الأرجح هو عملية مؤلمة لإسدال الستار على حقبة، وعملية أكثر إيلاماً لبدء حقبة جديدة ليست واضحة المعالم بعد، ولكن، بالتأكيد هي ضمن الخرائط المتوقّعة. * كاتب سوري.
مشاركة :