إميل أمين عن خمسة وتسعين عاماً، غادر عالمنا البابا الألماني الأصل، جوزيف راتزنغر، الذي حمل اسم بندكتوس السادس عشر، عندما شغل البابوية رقم خمسة وستين بعد المائتين في تاريخ أحبار الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، والتي بدأها بطرس الصياد كبير الحواريين في العقد الثالث من القرن الأول للميلاد في روما. أبصر راتزنغر النور في عام 1927، وقد وُلد وترعرع في كنف عائلة كاثوليكية بسيطة في بافاريا. وسيم كاهناً مع شقيقه جورج عام 1951، وحاز على شهادة دكتوراه في اللاهوت بعد سنتين. ومع موته رحل آخر حبر أعظم شارك مباشرة في أعمال المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1962-1965). وكان راتزنغر، اللاهوتي الشاب، حينها، يعتبر أنه يتعين على النصوص اللاهوتية أن تقدم أجوبة على القضايا الأكثر إلحاحاً، في الواقع المعاصر وحياة راتزنغر وجهده العلمي ومناصبه الكنسية، مجال كتب وأبحاث، ولهذا يصعب على المرء أن يجملها في مقال محدود. ففي عام 1977 عينه البابا بولس السادس أسقفاً على إبرشية ميونيخ، ولاحقاً عينه البابا يوحنا بولس الثاني على رأس مجمع عقيدة الإيمان، وكانت تلك السنوات التي تصدى فيها المجمع لما عرف بلاهوت التحرير، كما وقف المجمع أيضاً في وجه العديد من القضايا الخلقية الناشئة حديثاً، وربما العمل الأبرز الذي قام به هو إصدار كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية الذي أبصر النور عام 1992 بعد عمل استمر لست سنوات. ولاشك أن من تابعوا عظة الكاردينال راتزنغر في قداس جنازة البابا يوحنا بولس الثاني في أبريل 2005، رسخت لديهم قناعة بأنه سيتم انتخابه خلفاً له، وهذا ما حدث بالفعل. ولم يطل المقام بالبابا بندكتوس في السدة البطرسية، إذ فوجئ العالم باستقالته عام 2013، بعد ثماني سنوات من حبريته، وذلك لأول مرة منذ استقالة البابا أدريان السادس 1523م، إذ اعتبر أنه غير قادر صحياً على القيام بمهامه البابوية. أخبار ذات صلة «حجر الرحى».. قصة وطن وقائد تاريخي محمد عناني.. مشروع عابر للثقافات الإيمان والإنسان خلال سنوات كارديناليته التي بلغت نحو ربع قرن، وبابويته القصيرة، انشغل راتزنغر بقضايا عميقة مرتبطة جذرياً بالإيمان وبالإنسان، وقد كان من أوائل الأصوات التي حذرت من فقدان الهوية والاتجاه والحقيقة، في حال سيطرت وثنية جديدة على فكر الإنسان وعمله. انتقد بندكتوس ضيق أفق «مجتمع جشع»، ومن مقولاته المهمة أنه: «من المهم تطوير موقف جديد في وجه المخاطر التي تتربص بالخليقة، ومجابهة قوى الدمار بحزم». ويصف الأب فيدريكو لومباردي، المدير الأسبق لدار الصحافة التابعة للفاتيكان، حبرية البابا الراحل بأنها واحدة من الفترات البابوية، التي طبعتها أزمنة أزمات ومصاعب، ويشدد على ضرورة عدم إنكار هذا من جهة، ورؤية هذا الأمر وتقييمه بشكل غير سطحي من جهة أخرى. ولم يكن البابا فرنسيس في واقع الحال أول من تحدث عن البيئة والمخاطر المحدقة بالبشرية، فقد سبقه بندكتوس حين أشار إلى أن: «الكارثة البيئية تتواصل دون أدنى توقف، وانحطاط الحضارة يأخذ أشكالاً مثيرة للقلق. ومع التلاعب الطبي - التكنولوجي بالحياة البشرية، التي كانت تعتبر مقدسة، فإن الحدود الأخيرة تنتهك». لقد وضع بندكتوس العالم المعاصر أمام حقائق بدا وكأن البعض يتهرب من استحقاقاتها، فقد تحدث عن الشعور بالحنين إلى عالم ذي مصداقية جديرة بالثقة، إلى عالم قريب وإنساني، يحمي الجميع في الأمور الصغيرة، ويجعل الأمور الكبيرة سهلة المنال. اللاهوت المعقلن ويمكننا اعتبار فكر بندكتوس، بمثابة اللاهوت المعقلن، والساعي لمجابهة أسئلة يبدو ظاهرها سطحياً، بينما تأثيرها عميق، بحيث لا يكاد أي جيل تجاهلها، أسئلة عن معنى الحياة، وتحديات الأزمنة. وقد بدت الإنسانية في عيون البابا الراحل على مفترق طرق، ولذلك رفع صوته الخفيض، عبر كتاباته الفلسفية العميقة، مشدداً بأنه حان الوقت للتفكير، والتغيير، وأكد غير مرة برباطة جأش على أن: «هناك الكثير من المشاكل يجب حلها». هل كان بندكتوس بمثابة «توركيمادا» (أحد قضاة محاكم التفتيش القساة القلب في القرن السادس عشر) معاصر خلال حبريته؟ الجواب نجده عند الصحافي الألماني، بيتر سيفالد، الذي حاور البابا خلال بابويته لفترات طويلة، والذي يتفهم ما ظهر حينها من مخاوف وقلق لدى الكثيرين من شخصية وعقلية البابا الفيلسوف الألماني، حفيد كانط وهيجل: «لا أحد يرتجف من قداسة البابا بندكتوس السادس عشر، فقداسته يسهل كثيراً مهمة زائره، لأنه ليس زعيم الكنيسة، إنما هو أحد خدامها. إنه رجل عظيم يعطي ويستمد كل قوته من عطائه. ينظر إليك أحياناً نظرة يكتنفها شيء من التشاؤم، هكذا من أعلى نظارته، متجهماً، منتبهاً. وعندما تصغي إليه، وتجلس إلى جانبه، تشعر بدقة تفكيره وبالرجاء الذي ينبثق من الإيمان فقط». ولطالما وجدت كلمات القديس برنار دي كلارفو، «تذكر أنك لست خليفة الإمبراطور قسطنطين، بل خليفة صياد سمك» صدى دائماً في أذني بندكتوس. وقد حذر بندكتوس مراراً وتكراراً من أن مستقبل البشرية، ومصير كوكب الأرض، قد صارا في خطر، فقد استطاع الإنسان أن يطلق دورة موت وهول بيئي، ولكنه فشل في وضع حد لها. وفي سنوات بحثه المعرفي العميق، وضعنا بندكتوس أمام العديد من التساؤلات المصيرية المضنية، ومن بينها قضية التقدم والمعرفة، وما إذا كانت البشرية تتقدم إلى الأمام أم تتراجع إلى الخلف. كما نصحنا ذات مرة بأن على الإنسانية أن تشرع في فحص ضمير كبير لمعرفة ما هو حقاً التقدم؟ وهل يعني أنني حر أستطيع أن أفعل ما أشاء بما في ذلك الهدم البيئي بذريعة التقدم؟ وضع بندكتوس أصبعه عند موضع الجرح البشري، وذلك حين أعتبر أن قوة الإنسان الغربي المادية قد بلغت أبعاداً مخيفة، في وقت لم تواكبها فيه صعوداً قدرته الأخلاقية، ما من شأنه أن ينعكس في ثمار تقدم خال من أسس أخلاقية. وكان السؤال الكبير الذي تركه البابا المغادر عالمنا وراءه مفتوحاً ومادة للنقاش والجدل العقلي والنقلي: كيف يمكن تصحيح مفهوم التقدم وواقعه، ليتم من ثم السيطرة عليه إيجابياً من الداخل؟ كان رحيل البابا الفخري للكنيسة الرومانية الكاثوليكية أمراً متوقعاً، وبدا في الأيام الأخيرة أن الرجل ذا الرداء الأبيض يستعد لهذه اللحظة، غير أن درساً مهماً تركه للأجيال الشابة في الغرب التي تغريها منطلقات قوة العالم وبهرجه الخداع، وهو ما وضحه الأب لومباردي بقوله: «إنه إذا كان البابا يوحنا بولس الثاني قد أعطى شهادة ثمينة لا تنسى حول كيفية عيش مرض أليم بإيمان حتى الموت، فقد أعطانا بندكتوس السادس عشر شهادة جميلة لكيفية أن نعيش في الإيمان الهشاشة المتنامية للشيخوخة لسنوات كثيرة حتى النهاية».
مشاركة :