إن أسلافنا من العلماء والفقهاء قد ورّثوا لنا موروثاً عظيماً، هذا الموروث يتعرّض اليوم لهجمةٍ تغييبية من قبل أناس يريدون السير بالفقه الإسلامي في مسلك واحد هو مسلكهم، وحشره في زاوية ضيقة لا تُرى إلا من خلال نظرتهم بهذه العبارة يتملص كثير من الناس عن قبول الحجة والحق ويكتفي بما قاله مشايخه عن رأي من الآراء الواردة في الموروث الفقهي بأن هذا الرأي "زلة عالم" قاطعًا النظر عما وجب عليه من التأمل والتفحص في "زلة العالم" تلك، ويصرف فكره عن الوقوف عند تلك الزلة التي ترسّخ في ذهنه أنها مجرد زلة والواقع غير ذلك، فكثير من الآراء المعتبرة التي حُيّدت عن التأمل بالنظر هي ليست من هذا الباب بل هي "تجرّدُ عالم" وتابعه أمثاله ممن نظر في تجرده متبعًا قواعد التأمل والنظر، واستخلص أن ذلك الرأي هو الحق وإن خالفه الناس، وأن ذلك النظر والتأمل والتفحص هو الذي ذكره من أطلق تلك الكلمة "زلة عالم" فقد روي عن سيدنا معاذ رضي الله عنه أنه قال: "وإياك وزلة العالم، قالوا وكيف نعرف زلة العالم؟ قال: إن على الحق نورا". فأحيانًا كثيرة يأتي الحق عن طريق قلّةٍ ممن أعملوا عقولهم، فيضطر الجمهور لمتابعتهم نظرًا لوضوح حجتهم وقوة استدلالهم، لكن بعد شد وجذب، وأخذ ورد، ومع ذلك كله تبقى طائفة تعمل بلسان حال الكفار (.إنا وجدنا آباءنا على أمة..) وليس المجال مجال ضرب الأمثلة وإيراد الآراء الكثيرة التي اعتُمِد فيها قول القلة من العلماء مخالفةً للجماهير، ولكن حسبي من مقالي هذا أن تعرف أن عبارة "زلة عالم" صار الكثير من المتفقهة يتحجج بها غير معتبرين مخالفة من يخالفهم، ويتصدرون مراكز التواصل مع شرائح المجتمع وهم مُغَيِّبونَ لقواعد نقل الآراء ويودون أن لا يعرف الناس رأيًا غير رأيهم! ويذمون من يفتح باب ذكر الخلاف للناس، وهذا مخالف لمنهج العلماء في الطرح، إذ إن المسلمين لا بد لهم من فقهاء يعرّفونهم بمذاهب أسلافهم في فهم الشريعة، ولاسيما في المسائل المختلف فيها، فأما ما يجمع عليها وما علم من الدين بالضرورة فهذا أمر يعرفه عامة الناس فطرةً – ما لم يكن ادّعاءً - ولكنهم بحاجة إلا من يبصرهم بمذاهب أسلافهم كي يأخذوا منها ما يرون عليه نور السماحة القرآنية، ولذلك استنبط ابن كثير رحمه الله من حكاية الله للخلاف الواقع في عدد أصحاب الكهف استنباطًا جميلاً فقال: "فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف : أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن تنبه على الصحيح منها وتبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته؛ لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فتشتغل به عن الأهم فالأهم. فأما من حكى خلافًا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص، إذ قد يكون الصواب في الذي تركه" ذكر ذلك في مقدمة تفسيره. وهذا الذي بلينا به في هذه الأزمنة، فكثير ممن ينسب إلى الفقه والدعوة ينكرون أن هناك خلافًا في كيت وكيت من المسائل، فضلاً عن تغييب رأي المخالف، ويجعلون الخلاف في هذا من باب تتبع "زلة عالم" ويلجؤون إلى كثير من الأساليب التي تُنمي عن جهل صاحبها فضلاً عن كونه فقيهًا، وأحيانًا كثيرة جدًا يعمل الكثيرون بعمل منسوبٍ إلى الشريعة لكن ليس عليه نور الحق، ولا يتصل بجماليات الشريعة ومقاصدها من جهة، فيلجؤون إلى زخرفته وتزيينه وحشد الأقوال لتقويته والتقوي أحيانًا بقوة السلطان لفرضه، وتسفيه من يخالفه بل وتكفيره أحيانًا، أو تضليله أو تبديعه،أو في أقل الأحوال تجهيله! وكان الأجدر بمن يحملون للناس نور الهداية الاعتذار لقائله، ورد الناس إلى الأخذ بما هو متوافق مع سماحة أحكام الإسلام، وليس ذلك معيبًا أن يتبع الحق وإن قل قائله، إنما المعيب أن يرد الحق بحجة قلة قائله، تلك الحجة التي كان يدلي بها المتكبرون الذين يقيسون الحق بكثرتهم وقوتهم ومكانتهم بين الناس "إن هؤلاء لشرذمة قليلون" "أنؤمن لك واتبعك الأرذلون"؟! . إن أسلافنا من العلماء والفقهاء قد ورّثوا لنا موروثًا عظيمًا، هذا الموروث يتعرّض اليوم لهجمةٍ تغييبية من قبل أناس يريدون السير بالفقه الإسلامي في مسلك واحد هو مسلكهم، وحشره في زاوية ضيقة لا تُرى إلا من خلال نظرتهم، وقد نُزعت من صدورهم "الأمانة العلمية" مصداقًا لقول رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم "..ينام الرجل النومة فتُقبَض الأمانة من قلبه.." وهذا لا يختص بالمعاملات بين الناس فقط، بل يعم حتى المجالات العلمية بكل أشكالها وهذا منها، فترى الرجل كثير العبادة حسن المنطق جميل المظهر كثير الاطلاع، إلا أنه يجيّش كل ذلك نصرةً لمذهبه فيتصرف بما بين يديه تصرف من ينسب نفسه للعصمة، فيخفي ما يشاء ويؤوّل ما يشاء، ويريد من سائر الناس الانصياع لرأيه وعدم الأخذ بما يرونه مقربًا لهم إلى خالقهم من الآراء التي كان عليها أئمة وعلماء وفقهاء، وديدُنه في ذلك تارة يقول: خلاف غير معتبر! وتارة يقول: تلك زلة عالم. وتارة يقول: هذا مخالف للإجماع. ويطلق الألفاظ المستعظمة ليجعلها مهيبة وسياجًا بين الحق وبين من يريد الوصول إليه، وأعظم من هذا هو الاستطالة بالقدح في نيات الآخرين من المخالفين، بل وتلمس الأقوال التي يعتمد عليها في قذفهم بأبشع الألفاظ، وربما يصل الأمر إلى تكفير المخالف في مسائل الحق فيها مع من بدعه وفسقه وتكلم فيه! وهذا الفكر الإقصائي تمجه العقول التي عرفت خلاف الأسلاف، وكيف اتسع صدر الشافعيّ لخلاف أبي حنيفة، وكيف اتسع عقل أبي حنيفة لما لم يحط به عقل غيره، ولم يكن ذلك مثيراً للحقد والتنافس والتنابز فيما بينهم، بل مضوا في تناسق منضبط لا يغمط أحدهم مخالفه، ولا يسفه ما وصل إليه من نظر حتى وإن كان في ظاهره لا يستساغ، غير أنهم يعلمون أنه لم يقله لهوىً في نفسه، ولا تعصبًا لمذهبه، إنما هو في ذلك مجتهد كمثلهم، ولعلك قد ترى من يتطاول عليهم بحجة "أترد حديث رسول الله؟!" وكأنه لم يعلم أن لكل منهم أصوله وقواعده التي استنبطها من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وإنما يؤتى الجاهل من قِبَلِ سوء ظنه بمخالفيه وأسلافه.
مشاركة :