أخيرًا جاءت المكالمة التي انتظرتها ياغنا صالحي منذ أكثر من عام. كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية ظهرًا عندما دق جرس الهاتف ورفعت ياغنا السماعة بمنزلها في إيران، وسمعت صوت زوجها المراسل الصحافي المعتقل جيسون رضائيان. أفادت: «أبلغني أنه على وشك التوجه للمطار في تلك اللحظة». وكان رزيان، مراسل «واشنطن بوست» في طهران، قد اعتقل لثمانية عشر شهرًا في سجن العاصمة سيئ السمعة، بعد أن وجهت له السلطات الإيرانية تهمًا تتعلق بالتجسس أنكرها جميعًا. قامت زوجته الإيرانية بزيارته بداية الأسبوع الحالي، ولاحظت تناقص وزنه ومعاناته من عدوى بعض الأمراض. وأبلغ رضائيان زوجته أن باستطاعتهما أن يتقابلا لفترة قصيرة، وبعد ذلك يحاول إخراجها من إيران. أضافت الزوجة البالغة 31 عامًا: «لم يخطر ذلك على بالى مطلقًا». ما لم تعرفه هو أن تلك المكالمة الهاتفية التي جرت، السبت الماضي، ستشكل بداية لمعاناة تستمر 25 ساعة يكون فيها مصير رضائيان وزوجته معلقًا. وفى أول مقابلة له بعد أن غادر إيران، وصفت زوجته وأمه ماري ما حدث بقصة بطولية بدأت بالقبض على الصحافي في 22 يوليو (تموز) 2014، ثم ما لبثت أن دخلت في طور المفاوضات عالية المستوى بين طهران وواشنطن، انتهت بصفقة لإطلاق سراحه وثلاثة إيرانيين آخرين. نهاية الأسبوع الماضي، تملكت الحيرة والشك الجميع حول إمكانية إبرام الصفقة، ففي الوقت الذي هبطت فيه الطائرة السويسرية في مطار طهران كي تقل رضائيان وغيره من المعتقلين السابقين إلى عالم الحرية، اختفت زوجته صالحي ووالدة زوجها في ظروف غامضة. حاول الدبلوماسيون، والأصدقاء وعلي، أخو جيسون، البحث عنهما دون جدوى. وفى وقت لاحق، صرحت السيدتان أنهما كانا في قبضة الحرس الثوري الإيراني المتشدد، ولم يتضح ما إذا كان الحادث نتيجة لسوء فهم، أم أن شخصًا ما أراد إفساد الصفقة. تأرجحت مشاعر الزوجة صالحي ما بين القلق والابتهاج مع اقتراب الإفراج عن زوجها، حيث أجبرت هي وأم زوجها على التنقل لساعات بين صالة الاستقبال وغرف الاجتماعات. قالت صالحي لأم زوجها: «ميري، هناك من يريد أن يخرجنا من الصورة، وهناك سبب لشكوكي تلك، هناك شيء ما خطأ». الانتظار وبعد أن أجرى جيسون رضائيان اتصاله الهاتفي بعد ظهر السبت، تلقت زوجته، التي كانت بصحبة والدته، اتصالاً هاتفيًا من رجل لم يصرّح باسمه، وطلب منها التوجه إلى صالة الوصول بمطار طهران والانتظار لتعليمات جديدة. علما حينها أن الرسالة كانت من الجهاز الأمني الإيراني، وبعدها استقلا سيارة أجرى للمطار. مرت الساعات وانهالت المكالمات من الأصدقاء والأقارب بعد أن جرى الإعلان عن نبأ الإفراج عن المعتقلين الإيرانيين الأميركيين، لكن من دون تحديد الأسماء. وفي إحدى شاشات العرض بالمطار، شاهدت صالحي النبأ يذاع وتأكدت من حقيقة الصفقة، وكان زوجها أول اسم في القائمة. حينها قفزت صالحي في الهواء وأخذت في الصياح والبكاء، وفق صالحي. وبمقتضي الصفقة، أفرجت السلطات الإيرانية عن أربع أميركيين من أصول إيرانية مقابل إفراج الولايات المتحدة عن سبعة إيرانيين جرت محاكمتهم واعتقالهم لخرق الحظر التجاري المفروض على إيران، كذلك ألغت الأحكام الصادرة بحق 14 إيرانيًا خارج الولايات المتحدة. ولد جيسون رضائيان (39 عامًا) بمنطقة مارين كاونتي بولاية كاليفورنيا لأب إيراني وأم أميركية، وأقام في إيران منذ عام 2008، وعمل بصحيفة «واشنطن بوست» عام 2012. ألقي القبض عليه وزوجته عام 2014، وجرى الإفراج عن الزوجة بكفالة بعد ثلاثة أشهر. وحسب الإعلام الإيراني، أدينت صالحي بالانتماء لخلية تجسس جرى تفكيكها في أغسطس (آب) الماضي، بيد أن أيًّا من المسؤولين الإيرانيين أوضح طبيعة التهم أو ما إذا كانت هناك أحكام صدرت في حقها. ووفق صحيفة «واشنطن بوست»، لم يقدم الإيرانيون دليلاً واحدًا ضد الصحافي رضائيان. وبينما كانت صالحي ووالدة زوجها تنتظران بالمطار في الساعة التاسعة مساء السبت، ظهر رجل آخر يضع قناعًا على وجهه، وقال: «سيدة صالحي، تعالي»، ثم اصطحبها إلى خارج صالة المطار بينما تهرول خلفهما والدة زوجها ميري. أيقنت صالحي أن الرجل يتبع جهاز الأمن الإيراني وأنه وضع القناع كي يخفي وجهه. تملكت الحيرة صالحي حيث قالت: «أيقنت أنه على أن أضع مصيري بين أيديهم». أجلسهما الرجل المقنّع في سيارة ماركة بيجو فضية اللون وقاد السيارة إلى صالة الدبلوماسيين بالمطار بعد أن أخذ منهما هاتفيهما ودخلوا إلى صالة ضخمة، وأخبرهما الرجل أنهما سوف يريان رضائيان. لكن قبل ذلك جرى إبلاغ صالحي أولاً، وبعد ذلك ميري، أن عليهما التحدث أمام الكاميرا مع صحافيين من التلفزيون الإيراني الرسمي، كانت الأسئلة عمن كان وراء الإفراج عن جيسون، وما إذا كانتا سعيدتين بذلك؟ أجابت والدة رضائيان: «سوف أكون سعيدة عندما أعلم أن ابني قد غادر المطار وهبط بأمان في مكان آخر». كان رضائيان يجلس في الغرفة المجاورة، وعندما دخلت أمه نهض وارتدى بذلة الزفاف التي أحضرتها له عندما طلب منها مسؤولو السجن إحضار ملابس نظيفة. كانت أصغر بذلة لديه، لكنها كانت الأنسب له بعد أن فقد الكثير من وزنه. واعتقدت صالحي أنه قد يمر وقت طويل، أسبوع أو شهر وربما أكثر قبل أن يلتقيا مرة أخرى، إذ إن زوجها يحمل الجنسية الأميركية، بينما هي لا تحملها. من يعلم متى تسمح لها السلطات الإيرانية بالمغادرة؟ لكن رضائيان كان مترددا في إظهار مشاعره، فقد كان هناك كثير من الصحافيين، والحراس وكاميرات الفيديو بالغرفة. كانت سعادة صالحي مختلطة بمشاعر الإحباط والقلق من أن يفترقا مرة أخرى، وطلبت من زوجها الاتصال بها بمجرد هبوط الطائرة، «وألا ينتظر لست أو سبع ساعات». كان بمقدور الأم ميري رضائيان مغادرة إيران في أي وقت شاءت باستخدام جواز سفرها الأميركي، لكنها آثرت البقاء بالقرب من ابنها، وقالت: «وعدته أن أظل بالقرب منه حتى يجتمع شمله مع زوجته ياغي». في المطار، أبلغت السيدتان أنهما غير مسموح لهما بالمغادرة، على الرغم من أن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف كان قد صرح لمحطة «سي إن إن» أن الطائرة التي تقل المعتقلين على وشك الإقلاع. من بين الأمور التي لم تعلمها صالحي هي أن حريتهما كانت جزءا من الصفقة فقد كان من المفترض أن يلحقا به على الطائرة. لعبت سويسرا، التي ترعى المصالح الأميركية في إيران، دورا هاما في الإفراج عن رضائيان. فقد توجه السفير السويسري للمطار للقاء رضائيان والأميركيين الآخرين من أصول إيرانية، وأبلغ رضائيان السفير أن زوجته ووالدته في المطار، لكن الإيرانيين أبلغوا السفير أن السيدتان قد غادرا إيران بالفعل. وعند الساعة الواحدة ظهرا جرى نقل السيدتين إلى غرفة أخرى بها مسؤولة إيرانية وعلى مقربة منهم نحو 15 من عناصر الحرس الثوري الإيراني وقد أخفوا وجوههم خلف الأقنعة. بعد ذلك جرى تسليم السيدات من الحرس الثوري إلى وزارة الاستخبارات التي سمحت لهم بالعودة للمنزل. وعندما تفحصها هاتفيهما وجدا كثيرا من الرسائل منها رسائل من رضائيان يسأل «أين أنتم الآن». لم تعلم السلطات الأميركية حتى صباح الأحد الماضي أن السلطات الإيرانية أمرت بإقلاع الطائرة من دون الزوجة صالحي. بعدها أجرى وزير الخارجية جون كيري اتصالا بنظيره الإيراني جواد ظريف الذي طلب من النائب العام الإيراني إصدار أمر بالسماح بمغادرة الزوجة والأم ميري على متن الطائرة السويسرية. وفى صباح الأحد كان لدى الدبلوماسيين السويسريين تعليمات ألا يدعوا السيدتين تغيبان عن نظرهم، لكن في اللحظات الأخيرة اكتشفت صالحي اختفاء جواز سفرها، فقد بدا أن الإيرانيين أصروا على مواصلة اللعب حتى النهاية إما لإفساد الصفقة وإما للمقايضة عليهما مجددا، حسب مسؤولين أميركيين. لكن بعد ساعات معدودة حضرت سيارة لتقل السيدتين إلى الطائرة مع باقي المعتقلين حيث غادروا جميعا إلى سويسرا.
مشاركة :