استضافت الأسبوع الماضي مملكة البحرين المؤتمر الدولي للاستثمار في الثقافة الذي نظمته هيئة الثقافة والآثار بالتعاون مع مؤسسة ثينكرز اند وورز الفرنسية، وذلك بهدف تشجيع الاستثمار في الثقافة، ودفع القطاع الخاص نحو ساحة الثقافة، باعتبارها مصدرا من مصادر الاستثمار المضمون. وتأتي هذه المبادرة من الشيخة مي الخليفة رئيسة الهيئة، صاحبة مبادرات التجديد والإبداع، في إطار رؤية طالما أكدت عليها وهي الحاجة الماسة من الانتقال بالثقافة من مسؤولية دولة فقط إلى مسؤولية دولة ومجتمع معاً. إلا أن هذه المبادرة الجديدة تأتي في الزمن الصعب الذي تشهد فيه المنطقة بأكملها حالة من الانحسار الاقتصادي والمالي، من المرجح ان تلقي بظلالها السلبية على كافة القطاعات، وفي مقدمتها القطاع الثقافي الهش بكافة أشكاله، إذ اعتدنا في الغالب الأعم على أن تكون الثقافة هي أول من يدفع ثمن التراجعات والأزمات. ولذلك فإن نجاح مثل هذه المبادرة من شأنه ان ينقذ الثقافة، ويخرجها من مرحلة البحث عن الدعم إلى مرحلة التحول إلى فرصة للاستثمار وجني العوائد. وأعتقد أن ما تسعى إليه الشيخة مي في هذا النطاق، هو التفكير السليم والخيار الصحيح، سواء إبان الأزمات او في الأوضاع العادية أو في أزمة الرخاء، من أجل ديمومة العمل الثقافي كجزء لا يتجزأ من أعمدة الدولة. وذلك لأن الثقافة تحتل مكانة هامة في هويتها، فلا نهوض بدون تضافر القوة المادية والقوة الثقافية - الروحية، لبناء ثقافة خاصة بها تميزها عن غيرها من الدول، وذلك لأن الثقافة ليست شكلا من أشكال الترف أو الزينة، بل إنها سند للمشروع الإصلاحي، لأن لكل مشروع سياسي لا بد أن يوازيه مشروع ثقافي، إن لم يسبقه أو يبشر به، ونقصد هنا الثقافة التي تدعم الإيمان بالذات، كمدخل أساسي لربط قنوات التواصل مع الآخر، لتسهم في الحضارة الإنسانية وتحتل فيها مكانة، فطوال تاريخها الممتد في الزمن حافظت البحرين - مع تعلقها بأصالتها وهويتها - على صلاتها بالعالم، كما تؤكد ذلك الروابط الاقتصادية والثقافية والحضارية التي نسجتها عبر القرون، حيث كانت ولا تزال مهداً للتنوير والتحديث والابتكار، ومنبتاً للتفتح والحوار. لقد سبق للشيخة مي أن خاضت تجربة ناجحة ورائعة في البحث عن افق جديد للثقافة على صعيد توفير الموارد لها، شاركت فيها العديد من الأطراف، وكان رهانها آنذاك على استقلالية الثقافة، بحيث تكون المشاريع الثقافية نتاج المعادلة التي تحول فيها الدعم من رسمي مشروط، إلى أهلي كامل بلا شروط، وهو ما ميز تجربتها في إنشاء عدد من المراكز أهلية، تحولت إلى بلات فورم للثقافة التي ميزت البحرين، خلال السنوات القليلة الماضية، فشهدت أفضل العروض والندوات واللقاءات الفكرية والأدبية في مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث، أو في مركز الزايد، او في بيت الشكر أو مركز أقرأ، وكانت تلك التجربة الناجحة والمقنعة قد قامت على أساس شراكة حقيقية بين الرأسمال والثقافة الأهلية، إذ أسهمت البنوك وأطراف أخرى في دعم مشاريعها والاقتناع التام بها، كضرورة لتنمية مجتمع يشهد نمواً اقتصاديا وتوسعاً عمرانياً كاد في سرعته يقضي على البقية الباقية من التراث. لقد تمكنت الشيخة مي من جذب البنوك المحلية والقطاع الخاص ليسهم في دعم الثقافة، عندما جعلت من صورتها مقنعة، بل وأكدت تلك المؤسسات الخاصة وفي كثير من المناسبات التزامها الكامل بدعم الثقافة والاستثمار فيها الثقافة كعامل هام من عوامل الاستقرار وتوفير الأجواء المطلوبة لتحقيق التكامل الاجتماعي والاستقرار الأمني. ومن هنا يعد إطلاق وتنظيم مؤتمر الاستثمار في الثقافة خطوة متقدمة في الشكل والمضمون نحو إشراك المؤسسات الاقتصادية والمالية في الاستثمار في الثقافة، والتمهيد لنمو مشاريعها الواعدة بمردود مالي أكيد ومضمون مثلما حدث ويحدث في العديد من البلدان التي راهنت على الثقافة كمصدر من مصادر الدخل، فضلا عن كونها مقوماً من مقوماتها الحضارية. لقد خاضت الشيخة مي في السابق تجربة فريدة شارك فيها العديد من المتطوعين، ممن وجدوا في المشاريع الثقافية وأصبح لها حضور اجتماعي وقدرة على الجذب، من فئات متعددة من المواطنين والوافدين، من الشرق والغرب في لغة واحدة هي الإنسان في كل مكان، لغة الروح والجمال والتاريخ والفكر. ولذلك فإن نجاح مؤتمر الاستثمار في الثقافة اليوم يأتي مكملا لما كانت بدأته الشيخة مي من خلال بروفات مماثلة على مستوى أقل حجما، ولكنها نجحت بامتياز دائما، لأنها تمكنت عملياً من بناء شراكة استثنائية لإنجاز العديد من المشروعات الثقافية الأهلية، والمسألة هنا لها علاقة بالدرجة الأولى بالقدرة على إقناع مختلف الأطراف الرسمية والأهلية بأهمية مثل هذه المشروعات في دعم الصورة الحضارية للبحرين، ومثلما تمكنت في السباق من ضمان الحصول على مساندة القطاع الخاص الأهلي لتنفيذ مثل هذه المشروعات في وقت قياسي فإنها على الأرجح سوف تتمكن من تحويل مخرجات هذا المؤتمر إلى قوة رافعة للثقافة في الزمن الصعب، وذلك لأن حب البحرين والتفاني في خدمة الثقافة، كان باستمرار المحرك الأساسي لهذا الجهد الوطني والإنساني. نعم الثقافة مجال رحب للاستثمار، ولكنها تحتاج دائماً إلى من يحمل في قلبه وعقله حب البلد وأهله وتراثه وآثاره، وإلى من يعمل مثل الشيخة مي في كل اتجاه من اجل البحرين والرفع من شأنها ثقافياً، جميع أعمالها رحلاتها، مفاوضاتها أنشطتها، التي تصب جميعها في هذا الاتجاه. همس الثقافة في النهاية سبيلنا إلى التقدم والرقي، لأنها أداة حاسمة للتعبير عن وعي الشعوب، وإبراز خصوصياتها، والتعريف بإبداعاتها، وترسيخ تواصلها مع سائر الحضارات والثقافات، والاعتماد والمعول هنا على المبدعين والمبدعات لتكريس هذا التوجه، والمثابرة على إنجاز أعمال أصيلة وهادفة في مختلف المجالات.
مشاركة :