ظلَّت منطقة الشرق الأوسط منذ القدم، بمثابة منطقة للصراعات أو المنافسات الدولية والإقليمية، فهي منطقة التوسط بين القارات الثلاث القديمة، أوروبا وآسيا وأفريقيا، بيد إن تموضعها، حديثا، على رأس أجندة الفاعلين الدوليين والإقليميين، ظهر عمليا، وأكثر من أية فترة مضت، بعد هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، كقطب أوحد على النظام الدولي، في مطلع التسعينيات، بعيد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وحرب الخليج الثانية (1990 ـ 1991). وقد ارتكز ذلك، في حينه، على حدثين مؤسسين، الأول، إطلاق مشروع عملية التسوية بين الفلسطينيين وإسرائيل من مؤتمر مدريد (1991)، الذي توازى مع إطلاق مشروع “الشرق الأوسط الجديد” لتطبيع وجود إسرائيل كجزء من المنطقة، والمشروعين انطلقا برعاية ودعم من الولايات المتحدة الأمريكية. أما الحدث الثاني فقد نجم عن الهجوم الإرهابي في نيويورك وواشنطن يوم 11 سبتمبر 2001، وما نجم عنه من تداعيات الحرب الدولية ضد “الإرهاب”، وأهمها غزو الولايات المتحدة العراق (2003)، وإسقاط النظام فيه. ويمكن التعرّف على أهمية الحدث الثاني، بتأثيراته، من خلال تنظيرات تيار “المحافظين الجدد”، في الولايات المتحدة الأمريكية، مع موقعهم المتنفذ في إدارة بوش (الابن)، آنذاك، والذي استطاعوا عبره إدخال تغييرات على السياسة الأمريكية إزاء العالم العربي. ومثلا، هذا تشارلز كروتهايمر يقول: “الحرب في العراق هي لتغيير الصفقة التي عقدتها أمريكا مع العالم العربي قبل عشرات السنين…التي قالت – أنتم ترسلون لنا النفط ونحن لا نتدخل في شؤونكم الداخلية…هذه الصفقة انتهى مفعولها، عملياً، في سبتمبر 2001.. أصبح الأمريكيون يدركون أنهم إذا ما تركوا العالم العربي يسير في دروبه السيئة – القمع والاضطهاد والتدمير الاقتصادي وزرع اليأس – فسيواصل تنمية المزيد من “الأسامات”…توصلت أمريكا إلى الاستنتاج بأن عليها الاضطلاع بتنفيذ مشروع إعادة بناء العالم العربي من جديد…الحرب في العراق هي بداية تجربة ما تم تنفيذه في ألمانيا واليابان…الوجود الأمريكي في العراق سيبثّ قوة في المنطقة. وسيسرّع وتائر التغيير”. (“هآرتس” الأسبوعي، 4/4/2003) أما بيل كريستول فإن حرب العراق عنده “هي حرب من أجل صياغة شرق أوسط جديد. حرب ترمي إلى تغيير الثقافة السياسية في المنطقة بأكملها…المشكلة مع الشرق الأوسط هي انعدام الديمقراطية وانعدام الحرية”. (“هآرتس” الأسبوعي، 4/4/2003). وعموما، فقد نجم عن هذين الحدثين المؤسسين، عديد من التفاعلات والتداعيات الأخرى، ضمنها: 1) تحول الإدارات الأمريكية من استراتيجية الحفاظ على واقع النظام العربي الرسمي، إلى استراتيجية تغيير هذا النظام، بدعوى الإصلاح و”نشر الديمقراطية” (مشروع إدارة بوش الابن 2002)، وإعادة هيكلة النظام الإقليمي. 2) السعي لدمج إسرائيل في العالم العربي، من منطلق التسوية، أو من مدخل العلاقات الاقتصادية وعلاقات الاعتماد المتبادل، كما بحكم التقاطع في مواجهة نفوذ إيران، كما يحصل في هذه المرحلة. 3) تزايد عدوانية إسرائيل إزاء الفلسطينيين، بحكم التغيرات الحاصلة، ما ترجم في تملصها من استحقاقات عملية التسوية معهم، وفقا لاتفاق أوسلو (1993)، وسعيها تعزيز مكانتها وهيمنتها على حياتهم (مباشرة في الضفة الغربية وعبر الحصار وشنها الحروب في غزة)، وبشرعنتها تكريس وضعها كدولة يهودية (وفقا لقانون إسرائيل كدولة قومية لليهود الذي أقره الكنيست في قانون أساس في العام 2018). 4) صعود نفوذ إيران في بلدان المشرق العربي واليمن، منذ إسقاط نظام صدام حسين بفعل الغزو الأمريكي (2003)، وتحديها للنفوذ الأمريكي فيه، بشكل غير مسبوق، إذا استثنينا مرحلة وجود الاتحاد السوفييتي (السابق)، وتزايد هذا الدور بعد دخولها على خط الصراع الدائر في سوريا دفاعا عن النظام منذ ما بعد العام 2011. 5) تنامي دور الفاعلين اللادولتين في تقرير الشأن السياسي في بعض البلدان العربية، مثلا، لبنان (حزب الله)، والقوى السياسية الإسلامية الميلشياوية في العراق، والحوثيين في اليمن، ومعظمها محسوبة كأذرع إقليمية لإيران، ومدعومة منها، أيضا هذا يشمل الفصائل الإسلامية المسلحة في سوريا المدعومة من تركيا، إضافة إلى سعي إيران مد تأثيرها في فلسطين من خلال دعمها لحركتي حماس والجهاد الإسلامي. 6) اضطراب النظام العربي وسلبيته، وتشتّت مواقفه، إزاء رؤيته لمصالحه، وإزاء الموقف من الفاعلين الإقليميين الأخرين، وتدخلاتهم في المنطقة العربية، وهذا ينطبق على إسرائيل وإيران وتركيا. وبحسب غاي بخور (محلل إسرائيلي) فإن “سياسة الرئيس بوش (الابن) لدفع المعتدلين في المنطقة نحو الديمقراطية…أحدثت فراغا كبيرا خطيرا، جراء تورط الولايات المتحدة في العراق، وضعف صورة إسرائيل الردعية وجراء تراجع النظم المعتدلة، بسبب تهديد الديمقراطية لهم. دخل في هذا الفراغ، لمزيد الأسف، القوات الهامشية في الشرق الأوسط – إيران واحمدي نجاد، وحزب الله، وحماس والأصولية الإسلامية…حان الوقت لنملأ هذا الفراغ بنظام أكثر ايجابية واستقرارا.” (يديعوت احرونوت، 7/12/2006) بالنتيجة فإنه منذ عهد إدارة بوش الابن، مرورا بعهدي أوباما وترامب، وصولا إلى عهد الرئيس الحالي جو بايدن (على ما شهدنا في مخرجات قمة جدة (يوليو 2022)، التي ظهر فيها نوعا من التمرد العربي على السياسة الأمريكية، فقد ازدادت الهوة بين السياسة الأمريكية، إزاء الشرق الأوسط، ومعظم حكومات الدول العربية (الصديقة لها)، بسبب تحفظها على تلك السياسات، وضمنها سعي الولايات المتحدة فرض سياساتها بطريقة أحادية، وبوسائل القوة، لتغيير هيكلية الأنظمة العربية، ومن دون إيلاء أهمية مناسبة لحل الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ومع التساهل الأمريكي مع تنامي قوة إيران في المنطقة. السؤال: هل تتغير هذه المعادلات بنتيجة الضغوطات العربية والغزو الروسي لأوكرانيا؟
مشاركة :