يسود انطباع على نطاق واسع بأن النفط والغاز هما من الوسائل الحديثة في الطاقة. وحتى في الوثائق، يُنسب إلى الكابتن الأميركي دريك بأنه أول من حفر بئراً للنفط في «تيتوسفيل» بولاية بنسلفانيا، في العام 1859. لا شيء أبعد عن الحقيقة من هذا الانطباع. وربما يحمل هذا الأمر مفاجأة لكثيرين، لكن سكان الكهوف كانوا أول من استخدم النفط، بمعنى أن النفط رافق حضارة البشر منذ بداياتها الأولى. فقبل زمن غير بعيد، اكتشف علماء الآثار أن بشر الـ «ناندرثال»، وهم أول من قطن أوروبا قبل أن يصلها الجنس الإنساني قادِماً من أفريقيا، استخدموا النفط قبل قرابة 40 ألف سنة. واستخدم هؤلاء القطران، وهي مادة ترشح طبيعياً من مخازن البترول، للصق الحجارة بالأخشاب. ومع تطوّر المجتمع الإنساني، تطوّر أيضاً استخدام النفط والغاز الطبيعي. وقبل الميلاد بقرابة 3 آلاف سنة، استُعمِل النفط (خصوصاً القطران) في البناء وفي تحصين الأشياء ضد الماء عبر طليها بالقطران، كحال الزوارق البدائية وأماكن الاستحمام وأقنية الماء وغيرها. وفي حضارة بلاد الرافدين، استعمل الزفت الطبيعي في بناء الجدران، كما استُخدِم في تشييد برج بابل الأسطوري. ووصف الرحالة البُندقي الشهير ماركو بولو، خلال تجواله في مدينة «باكو» بأذربيجان في العام 1272، مشاهداته عن حصول أهالي تلك البلدة على النفط من آبار سطحية تحفر يدويّاً. إبحث عن... الصين في الألفية الأولى قبل الميلاد، صادف راعٍ يوناني أثناء تجواله بقطيع من الماعز، بخاراً يندفع الى الأعالي حاملاً ألسنة من اللهب عند قمة جبل «بارناسوس». كان لهباً متصاعداً من شقّ في صخرة. والأرجح أن صعقة برقٍ تسبّبت في هذه النيران الغازيّة. وفي تلك الأزمنة، نسب الإغريق تلك النار إلى الألهة، فبنوا معبداً حولها. وشكّل ذلك المعبد مكاناً لمن عُرِفَن لاحقاً باسم «عرّافات دُلفى»، اللواتي كُنّ يعطين «نبؤات» ويقلن أن تلك النار المنسوبة للآلهة، أوحت لهنّ بها. وفي تفسير حديث، يعتقد أن النار كانت تتصاعد مع كثير من الغاز، ما كان يسبب دخول العرّافات في حال تشبه الترنّح وتواهن اليقظة، بأثر من تنشّقهن الغاز. وفي تلك الحال من الوسن الخَدِر، ربما كانت تأتيهن خيالات وأفكار فتبدو لهن وكأنها نداءات من الألهة البعيدة! وفي عام 500 قبل الميلاد، صار الغاز الطبيعي أقرب إلى السلعة اليومية. إذ تعرّف أهالي الصين على مزاياه في الاشتعال. وبحثوا عنه. واستخرجوه. وفي كتابه الشهير «تاريخ الملح في العالم»، يصف مارك كيرلانسكي استخراج الصينيين الغاز من أمكنة في غور الأرض، ثم ينقل عبر أنابيب من قصب الـ «بامبو» المجوّف، ويسير فيها باندفاع يتأتى من انبثاقه طبيعياً من مكامنه العميقة. ويصف كيرلانسكي أن الصينين استفادوا من ذلك الغاز إلى أقصى حدّ. وفي منحىً شديد الإثارة، صنع الصينيون «شبكات» من قصب الـ «بامبو» لتوزيعه على المنازل! وفي تقنيّة أقرب إلى صورته المعاصرة، استخدم الصينيون الغاز ونيرانه المستمرة في غلي مياه البحار (وكذلك مياه السبخات المالحة) لفصل الماء عن الملح الذي هو مادة ضرورية للانسان ومآكله وعيشه ومجموعة كبيرة من صناعاته أيضاً. وكذلك استفاد الصينيون، بحسب ما يورد كيرلانسكي، من البخار المتصاعد في هذه العملية كي يكثّفوه فيعود ماءً مُجدداً، لكنه يصبح عذباً وقابلاً للشرب. وبقول آخر، استخدم الصينيون الغاز الطبيعي في تحلية مياه البحر والمياه المالحة عموماً. وحدثت تلك الأمور في الصين قبل قرون من تعرف الحضارة الحديثة على الغاز الطبيعي واستعمالاته. يتسّرب وينتشر من المستطاع القفز في الزمن إلى الأمام، وتخطي قرابة ألفي سنة، للوصول إلى عام 1821. ففي تلك السنة، حُفِر أول بئر معروف للغاز في الولايات المتحدة، عندما حفر وليام هارت بئراً بعمق عشرة أمتار في «فريدونيا» بنيويورك. كيف عرف أين يحفر للوصول إلى الغاز؟ ببساطة، نسج هارت علاقة قويّة مع سكان أميركا الأصليين (يُسمّون «الهنود الحُمر»). ودلّوه على أمكنة الغاز، لأن دياناتهم كانت تتضمّن عبادة النار التي تنبثق طبيعياً من شقوق الجبال والأودية والسهوب! وبهذه الطريقة، شيّد هارت أول مُنشأة أميركية للغاز، وسمّاها «شركة فريدونيا للغاز المُضيء». ومنذ ذلك الوقت، اعتمدت شركات التنقيب عن البترول، على الحفر السطحية التي يتصاعد منها الغاز (أو نيرانه) كمؤشر للوصول إلى حقول البترول الضخمة، على غرار ما حدث في العثور على أول حقل للنفط في مدينة «كركوك» في العراق. وعرفت تلك الشركات أنه حيثما يُلاحظ تسرّب للغاز أو القطران من شقوق في الأرض، فهناك خزّانات ضخمة للبترول تحتها. وبالعودة إلى إنجاز هارت، فالأرجح أنه لم يكن صعباً عليه التفتيش عن البترول في «توتسفيل». لماذا؟ ببساطة، لأن تلك البلدة شُيّدَت أصلاً قرب «شق» اسمه... «شق البترول»! وعلى مدار قرون طويلة، اعتاد هنود قبيلة الـ «سينيكا» استعمال البترول المتسّرب من شقوق الأرض في تلك المنطقة، لتوظيفه في استخدامات متنوّعة، شملّت اتّخاذه دواءً لعلاج بعض الأمراض. واعتماداً على هذه المعارف القبائلية، عمل الأميركي الكابتن درايك على إقامة أول حقل نفط في ولاية «بنسلفانيا»، في منتصف القرن العشرين. وسرعان ما انتشرت حقول النفط في تلك الولاية. واستمرت ولاية «بنسلفانيا» على مدار السنوات الأربعين التي تلت استخراج درايك البترول، في تزويد العالم بثلث حاجاته من البترول. هناك مثال آخر يأتي من مدينة «سبندلتوب» في ولاية تكساس. فلسنوات طويلة، اعتاد سكان تكساس رؤية آلاف من «كرات القطران» تتدفّق من الأرض، كما ألفت عيونهم رؤية البترول متسرّباً من كيلومترات من الشقوق في الأرض القريبة من سواحل «خليج المكسيك». وظهر أول بئر للنفط في «سبندلتوب» في تكساس في العام 1901، فطبّقت شهرته الآفاق. وسرعان ما تكاثرت حقول النفط في تلك البلدة التي احتوت ما يفوق مجموع حقول النفط في أميركا. وتكرّرت أمور مُشابهة في بقاعٍ كثيرة. وفي لمح البصر، صار بئر «بُرجان» في الكويت، ثاني أضخم حقلٍ للبترول عالميّاً. واكتُشِفَ «بُرجان» في عام 1912، على يد عالِم جيولوجيا بريطاني لاحظ وجود مئات من التسرّبات الطبيعية للبترول في مساحة متقاربة من باطن الأرض.
مشاركة :