مازحني بعضهم حول المقال الفائت عن زيادة الفجوة بين رواتب المديرين والموظفين وخطورتها اجتماعياً وأخلاقيا.. أحدهم قال: يا أخي لا تلفت عيون الدولة والناس علينا، ما صدقنا نستلمها! وآخر قال: قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق، وآخر قال: لماذا هذا الحسد؟ مسألة الحسد ليست مزحة فبعض المنظرين المدافعين عن الوضع الراهن للعولمة الرأسمالية يدَّعون أن الدافع وراء إثارة القلق بشأن عدم المساواة يقوده «سياسة الحسد». فهم غالباً يستشهدون بأن عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع ينخفض مما يدل على أن عدم المساواة ليست مشكلة كبيرة.. فالزيادة الكبيرة المتنامية لرواتب المديرين لا تعني أن بقية الموظفين تقل رواتبهم بل إنها زادت زيادة طفيفة.. إنما تلك مراوغة للمسألة حسبما تذكر أوكسفام (منظمة لمكافحة الفقر) التي ترحب بانخفاض عدد الفقراء، لكن لو أن عدم المساواة لم ينم بهذه الحدة لكان هناك 200 مليون شخص هربوا من الفقر نتيجة النمو الاقتصادي، وكان يمكن أن يرتفع إلى 700 مليون.. فعدم المساواة حرم مئات الملايين من الخروج من دائرة الفقر.. التقرير، الذي نشرته أوكسفام قبيل بدء فعاليات منتدى دافوس الاقتصادي الأسبوع الماضي، يوضح أن قلق الحكومات حيال اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء لم يُترجم إلى سياسات رادعة وإجراءات ناجعة كفيلة بردم الشرخ بين الشريحتين اللتين تتباعدان عن بعضهما.. فليس من المعقول حسب أوكسفام إن ثروة 1% من أثرى أثرياء العالم تفوق ثروات العالم بأكمله.. ما هو الوضع الآن؟ حصة الدخل الوطني المخصصة للعمال والموظفين العاديين تتراجع في جميع البلدان الغنية تقريباً ومعظم البلدان النامية. هذا يعني أن العمال والموظفين يحصلون أقل فأقل من مكاسب النمو الاقتصادي. في المقابل، شهدت أموال أصحاب رؤوس الأموال وكبار المديرين صعوداً متنامياً باستمرار أسرع كثيراً من معدل نمو الاقتصاد، بدرجة لم تحصل إطلاقا في القرن العشرين وتذكرنا بأزمات منتصف القرن التاسع عشر.. فهل يتحول العالم إلى إقطاعية للإداريين المتربعين في قمم الشركات والمؤسسات المالية؟ المقال السابق أوضح بالأرقام والدراسات، أن الفجوة بين متوسط أجور الموظفين وبين المتربعين في القمة تتسع بسرعة فائقة.. مثلاً شهدت رواتب المديرين التنفيذيين في الشركات الأمريكية الكبرى صعوداً بنسبة أكثر من النصف (54.3%) منذ عام 2009، في حين أن الأجور العادية لم تتحرك. معدل ما يحصل عليه الرئيس التنفيذي لكبرى شركات تكنولوجيا المعلومات في الهند هو 416 ضعف راتب الموظف العادي (تقرير أوكسفام). وفي أمريكا قريباً من هذه النسبة (تيم مولاني).. وفي بريطانيا، أظهرت دراسة مركز الأجور المرتفعة أن معدل الراتب السنوي للرئيس التنفيذي في الشركات المئة الأكبر في البلد، تعادل 180 ضعف متوسط ما يقبضه موظفو هذه الشركات. لقد تغير الاقتصاد السياسي في العالم على مدى 30 عاماً الماضية من رفع القيود، والخصخصة، والسرية المالية خاصة التمويل، والقدرة الكبيرة للأغنياء وأصحاب النفوذ الأقوياء لاستخدام مناصبهم لزيادة تركيز ثرواتهم. هذه الأجندة السياسة تتأسس عن طريق ما يسميه جورج سوروس «أصولية السوق» بالمعنى السياسي للأصولية، وهو ما يكمن أكثر في قلب أزمة عدم المساواة اليوم، فالمكافآت التي يتمتع بها عدد ضئيل نادراً ما تمثل عوائد فعالة أو نزيهة، أو أنها نتيجة لكفاءة من يتربعون على القمم الإدارية، مما يقوض قيم الجدارة في العمل.. العلاقة ضعيفة بين الرواتب المتضخمة للمديرين وكفاءتهم حسب دراسة شاملة لمجلة الإدارة الأمريكية، التي خلصت إلى أن زيادة أجر مدير الشركة ليست مؤشراً جيداً لأداء الشركة على المدى الطويل. بل إن من بين الشركات المالية الأعلى أجراً لمديريها في أمريكا حصلت 22% منها على أموال إنقاذ فدرالية بين عامي 1993 و2012 (حسب معهد الدراسات السياسية)، بمعنى أن أداءها كان فاشلاً. هل تذكرون كيف تحول فشل حوكمة الشركات إلى قضية كبرى أثناء الأزمة الاقتصادية عام 2008 عندما شعر الكثيرون أن رواتب المديرين التنفيذيين تتصاعد منفلتة بطريقة لا تتناسب مع رداءة نتائج الشركات أو هبوط أسعار الأسهم؟ يبدو أن غالبيتنا قد نسي! لم يعاقب أحد من هؤلاء المديرين بل إن رواتبهم لا تزال تتصاعد! يذكر كتاب «رأس المال في القرن الحادي والعشرين» لمؤلفه توماس بيكتي أنه لا توجد أدلة تدعم تفسير الفصل الحاد لطبقة كبار المديرين عن البقية في الشركات الكبرى بمهارة وإنتاجية هؤلاء المديرين، وكأنها ارتفعت فجأة مقابل بقية الموظفين؛ إنما التفسير المتسق مع بعض الأدلة هو أن هؤلاء المديرين لديهم السلطة لتحديد أجورهم، أحياناً بلا حدود، وأحياناً أكثر بلا علاقة واضحة مع إنتاجيتهم. التهرب من دفع الضرائب من قبل أصحاب رؤوس الأموال وكبار المديرين، وخفض الحكومات للضرائب على الأرباح الرأسمالية أضافت مزيداً من عوائدهم. كما قال وارن بافيت في جملته الشهيرة: إنه يدفع معدل ضرائب أقل من أي شخص في مكتبه - بما في ذلك عامل النظافة وسكرتيره. ثمة عامل قوي للنظام الاقتصادي الذي يحرف العمل لمصالح الأقوياء.. إنه الإنترنت، حيث يوفر ملاذات ضريبية وتهربا من دفع الضرائب، التي ازدهرت خلال العقد الأخير. المفارقة أنه تم منحها الشرعية الفكرية من قبل سيادة السوق عبر فكرة «أصولية» بأن الضرائب المنخفضة للأغنياء والشركات الغنية ضرورية لتحفيز النمو الاقتصادي وهي بطريقة أو بأخرى جيدة بالنسبة لنا جميعا. يتم الحفاظ على هذا النظام من قبل الذين يتقاضون أجورا مرتفعة، من المهنيين في صناعة الخدمات المصرفية والاستشارات القانونية والمحاسبية والاستثمار. قضية تزايد الفجوة بين رواتب المديرين والموظفين هي جزء من المشهد العام لزيادة الهوة بين الأغنياء والفقراء، وهنا يتساءل توماس بيكتي: هل سيكون العالم مملوكاً للتجار فاحشي الثراء وكبار المديرين، أم ستمتلكه الدول النفطية أو البنك الصيني؟، إلا أننا الآن في نفس الوضع الحاد الذي كان عليه أسلافنا أوائل القرن التاسع عشر: نشهد تغيرات جسيمة في الاقتصاد حول العالم، ومن الصعب معرفة مدى تأثيره بين البلدان وداخلها في توزيع الثروة والدخل. هذا موضوع المقال القادم. مقالات أخرى للكاتب الفجوة تتسع بين رواتب المدراء والموظفين كيف نستفيد من العنجهية الإيرانية؟ انتخابات بلدية أم قبلية؟ التحول الوطني بين الطموح والغموض النازية المقنَّعة
مشاركة :