أجور المدراء التنفيذيين للشركات والمؤسسات الكبرى تتضاعف، والفجوة تتسع بين رواتبهم ورواتب بقية الموظفين، حتى صارت رواتبهم تعادل عشرات وربما مئات أضعاف رواتب البقية، مما يثير الجدل اقتصادياً واجتماعياً وحتى سياسياً عن مبرراتها، فضلاً عمّا يثيره أخلاقياً حول عدالة توزيع الثروة.. الظاهرة عالمية امتدت لأغلب بلدان العالم، وهي تترسخ لدينا في دول الخليج.. وخطورتها أنها تقلص الطبقة الوسطى فجزء منها يتجه للأعلى برواتب فلكية، وأجزاء أكبر تتجه للأسفل مما يؤثر في الاستقرار الاجتماعي. ترتبط هذه الظاهرة مع ظواهر أخرى مثل سرعة تغيير القيادات في المؤسسات الكبرى، واختيار قيادات جديدة من خارج القطاع مقارنة بالسابق حين كانت القيادات تبقى ردحاً من الزمن في دفة القيادة، ويتم تعيينها بالتدرج من داخل القطاع.. ما حجم هذه الظاهرة، ومتى بدأت، وما هي أسبابها، وإلى أين تتجه، وما الحل؟ الظاهرة بدأت في سبعينيات القرن المنصرم في أمريكا، ومع عولمة الاقتصاد الرأسمالي أو إن صح التعبير مع أمركة الاقتصاد العالمي، امتدت لبقية البلدان، وهي تتصاعد وتتسع حتى شملت القطاع الحكومي.. فصار من المعتاد لدينا أن يكون للوزير الجديد أو وكلائه أو رؤساء المؤسسات الكبرى رواتب وحوافز ضخمة بعقود جديدة خارج نظام الرواتب البيروقراطي الذي يسعى للعدالة في الأجور.. في أمريكا، كان معدل رواتب المدراء التنفيذيين للشركات الأكبر يشكل 18 ضعف معدل رواتب الموظفين عام 1965 وتصاعد بشكل هائل حتى بلغ إلى أكثر من 400 ضعف عام 2000، ثم عاد وانخفض نسبياً.. فيما بلغ حده الأقصى بنحو 1800 ضعف لشركة جي سي بيني (مجلة أتلانتك). خذ مثلاً رواتب المدراء عام 2014 حسب تيم مولاني: 156 مليون دولار للسنة (ديسكفري للاتصالات)، 77 مليوناً (جوبرو) 74 مليوناً (ليبرتي)، 42 مليوناً (ياهو). في بريطانيا، أظهرت دراسة مركز الأجور المرتفعة أن معدل الراتب السنوي للرئيس التنفيذي في الشركات المئة الأكبر في البلد، يقارب الخمسة ملايين جنيه استرليني، مقارنة بحوالي 28 ألف جنيه متوسط ما يقبضه موظفو هذه الشركات. لو جمعنا الأسباب النظرية لهذه الظاهرة سيتبادر للذهن ارتفاع النمو الاقتصادي، أو التنافس المحموم على المدراء المهرة، أو حجم أرباح الشركة.. أو ربما نفوذ هؤلاء المدراء الكبار الذين يحددون لأنفسهم هذه الرواتب.. الخ. لكن الدراسات المسحية تنفي كل هذه الأسباب. لنبدأ بالسؤال الأساسي المتوقع: هل هذه الأجور الفلكية مرتبطة بالنمو الاقتصادي؟ الدراسات تجيب بالنفي؛ فمتوسط رواتب مدراء كبرى الشركات في أمريكا ارتفع بنسبة 9.1% عام 2014 مقارنة بالعام الذي قبله، بينما النمو الاقتصادي ارتفع 2.4 % فقط، أما مداخيل بقية الأمريكان فارتفعت بنسبة ضئيلة جدا (دراسة إيكيولار). حسنًا، فهل يعود الراتب الضخم لتحسين أداء المؤسسة التي يرأسها هؤلاء المدراء العباقرة؟ لا عبقرية ولا يحزنون، حسب الدراسة الشاملة لمجلة الإدارة الأمريكية، التي وجدت أن الاختلافات في أداء الشركات كان حوالي 5 % فقط من مقدار التباين بين الشركات الأعلى أجراً لكبار مديريها. المتغير الأول كان حجم الشركة، الذي مثل 40% من الفرق. وخلصت الدراسة إلى أن زيادة أجر مدير الشركة ليست مؤشراً جيداً لأداء الشركة على المدى الطويل. بل أن من بين الشركات المالية الأعلى أجراً لمدرائها في أمريكا حصلت 22 % منها على أموال إنقاذ فدرالية بين عامي 1993 و2012 (حسب معهد الدراسات السياسية)، بمعنى أن أداءها كان فاشلاً. أما أهم دراسة في هذا المجال من جامعة إكسفورد (لوسيان ببشوك ويانيف جرنشتاين) فقد أوضحت أنه لا أداء مدراء هذه الشركات ولا حجمها ولا إنتاجها هو السبب، فقد وجدت أن تصاعد أجور المدراء من عام 1993 إلى 2003 كان أبعد بكثير من الزيادة التي يمكن تفسيرها بالتغيرات في حجم الشركة، أو الأداء، أو تصنيف الصناعة التي بقيت على حالها بينما زادت رواتب المدراء للضعف مما يعني أن التعويض المالي لأداء المدراء هو نصف حجمه الفعلي. بعض المحللين أرجع زيادة رواتب المدراء إلى نفوذهم أنفسهم في تحديد الأجور الخاصة بهم، بينما آخرون قالوا إنها نتيجة التنافس في السوق على المواهب الإدارية. إنما في دراسة شاملة وجدت أن كلاهما (السلطة الإدارية وقوى السوق التنافسية) هي محددات مهمة لأجر الرئيس التنفيذي، لكنها غير كافية للتفسير تصاعد الرواتب (كارولا فردمان وديرك جنتر). ورغم عجز الدراسات على تبين الأسباب، فثمة أسباب جديدة أظهرتها بيانات أيكيولار حين وجدت علاقة بين أعلى الأجور لمدراء الشركات التي عقدت صفقات جديدة، مثل الاكتتاب العام، والقيام بالاندماجات الكبيرة أو تصفية الاستثمارات وإعادة التنظيم. ثمة أيضاً من يرى عاملاً جديدًا وهو ظاهرة سرعة تغيير القيادات يجعلها تطالب برواتب ضخمة لتأمين مستقبلها نتيجة المخاطرة في قبول منصب غير مضمون، وصعوبة العودة للمنصب السابق! خلاصة الدراسات أن رواتب المدراء التنفيذيين ترتبط بمجموعة واسعة من الأسباب من سلوكيات الشركات، ومن الاستثمار والسياسات المالية إلى المخاطرة والتلاعب. ولأن ذلك يربط بأسباب غير ظاهرة وغير ثابتة فإن قياسها صعب جداً وليس مستحيلا ويظل واحداً من أهم التحديات للبحث عن تصاعد رواتب المسؤولين التنفيذيين. الزبدة، أن الدراسات لا تزال عاجزة حالياً عن تفسير الأسباب؛ فما الذي يمكن أن يفعله المساهمون في الشركات إزاء الرواتب الجامحة للمدراء التنفيذيين؟ الإجابة مخيبة للآمال، فليس لديهم الكثير ليفعلوه! فرغم أن تصويت المساهمين يتضمن رواتب كبار المسؤولين فيها إلا أنه عادة غير ملزم. فهل يمكن تنظيم هذه الرواتب المنفلتة في صعودها؟ لا يبدو في الأفق ما يشجع رغم أن لجنة الاوراق المالية والبورصات في أمريكا تدرس حالياً اقتراح لجعل الشركات توضح مبررات الرواتب المرتفعة للمدراء، بما في ذلك مقارنة واضحة لرواتب المسؤولين التنفيذيين مع الأداء، سواء داخل الشركة أو بين الشركات أو المنافسين (تيم مولاني). أختم بما قاله ستيفان ستيرن (مدير مركز الأجور المرتفعة في بريطانيا): «بالرغم من المطالبات المتكررة بالشفافية في آليات المؤسسات المالية والسعي لتحقيق مستوى من العدالة في الأجور، لا تزال هذه المطامح بعيدة المنال، فالفرق الشاسع في الرواتب يزيد من ريبة المجتمع حيال الشركات الكبرى في البلاد».
مشاركة :