تظل مسائل الهوية والثقافة من أعقد المواضيع الاجتماعية نظرا للتداخل الكبير بينهما. يرى الدكتور جين في كتابه النظرية الجيونفسية للعلاقات الدولية في القرن 21 أن الجغرافيا النفسية هي السر الحقيقي في تفسير العلاقات الدولية ومنها بالطبع الأزمة الثقافية بين الشرق والغرب، ويستدل بعدة شواهد لتعزيز نظريته كفشل العقلية الأمريكية في قراءة الواقع الأفغاني عندما خططت واشنطن لغزو كابول وإرساء دعائم الديمقراطية وتحويل البلاد إلى أنموذج ثقافي غربي شبيه للحالة اليابانية في أقصى الشرق الآسيوي، فالتجربة كانت مريرة على الأمريكان بسبب عجزهم عن فهم تركيبة الجغرافيا النفسية للشعب الأفغاني!!قراءة الدكتور منصور الجنادي لرؤية البروفيسور جين بأنها نظرة غير بعيدة عن نظرية كوشوت، وبالتالي فإن الثقافة كمفهوم شامل للعقل والعاطفة معا هي البعد الخفي في تفسير العلاقات الدولية، وهنا نستعيد حادثة إعلامية غربية توضح أزمة الهوية عند الغرب، فعندما فازت فرنسا بكأس العالم عام 2018 كان الفرنسيون مشغولين بالرد على وسائل الإعلام العالمية التي كانت تردد أن أفريقيا هي التي فازت بكأس العالم كإشارة إلى أن معظم اللاعبين الفرنسيين ينحدرون من أصول أفريقية بينما كان الرد الفرنسي بأن هؤلاء اللاعبين قد ولدوا وتربوا في فرنسا، والأهم من ذلك أنهم مشبعون بالثقافة الفرنسية وليس الأفريقية، ولا شك أن الرد الفرنسي كان مقنعا كون الثقافة هي أحد العناصر الأساسية في تحديد معنى الهوية.في مجتمعاتنا العربية يرى الكثيرون أن عاملي اللغة والدين «الإسلام» هما عنصران أساسيان في تحديد الهوية العربية، ولهذه الرؤية استدلالات كثيرة في التاريخ العربي، أما المعارضون لهذا الطرح فيرون أن اللغة لا تحدد الهوية على الإطلاق، فالبرازيل تتحدث اللغة البرتغالية ولا يمكن القول أبدا القول أنها تحمل الهوية البرتغالية، وذات الأمر يقال عن الأرجنتين التي تتحدث اللغة الإسبانية، فما الذي يحدد أوجه الهوية في نظر هؤلاء؟ إنها الجغرافيا، بمعنى أن الانتماء إلى المكان هو الذي يحدد إطار الهوية الأساسي لأي مجتمع وليس اللغة التي يتحدث بها سكان هذه الجغرافيا.وحول هذه الرؤية، أستذكر طرحا للدكتور سعد الصويان حول ذهنية عرب الشمال ونظرتهم الاستعلائية تجاه عرب الجنوب، فجغرافيا الهلال الخصيب تتضمن الحضارات النهرية التي يرى أصحابها أن ثقافتهم المائية أوسع فهما وإدراكا من ثقافة الصحراء، أما الدكتور علي الوردي فقد كتب العديد من الدراسات حول الهوية العراقية وكيف أنها مضطربة من وجهة نظره، فالشخصية العراقية متجاذبة نحو هويتين العربية والفارسية، وكان يلمز بشعوبية إلى ثقافتي البداوة والحضارة، وعلى الرغم من بشاعة الثورة الخمينية وخرافة أيديولوجيتها التي تشربت العديد من مناهل الثقافة الفارسية القديمة والتي تتعارض مع أبجديات الحضارة إلا أن الوردي ورغم ثقافته الواسعة ظلت مهيمنة عليه تلك الشعوبية المقيتة!!نعود إلى ظاهرة اللاعبين الفرنسيين، يقول المذيع الأمريكي تريفر نوا: عندما يكون الأفارقة في فرنسا عاطلين عن العمل أو يخالفون القانون يصفهم الفرنسيون بالمهاجرين الأفارقة وعندما يتسببون بالفوز بالبطولات يعتبرونهم فرنسيين، وقد رد عليه الفرنسيون بأن هذه النظرة قد لا تتعلق بالفرنسيين وحدهم وقد تكون أيضا ظاهرة إنسانية تبديها الثقافات القوية تجاه الثقافات الضعيفة، فالثقافة المهيمنة قد تتحول إلى أنموذج مثالي يرغب الآخرون بالانتماء إليه كما نرى في دولة مثل الفلبين حيث نرى أثر تنسيخ الثقافة الأمريكية جلي في كافة شؤون الحياة، وقد وعى المؤرخ العربي ابن خلدون هذه الظاهرة مبكرا وأطلق عليها: ولع المغلوب بتقليد الغالب.[email protected]
مشاركة :