وسط بحرٍ متلاطم من الأزمات الاقتصادية والمعيشية والسياسية الخانقة التي تعصف بتركيا، يسابق الرئيس رجب طيب أردوغان الزمن ويراوغ ويناور ويضرب أخماسا بأسداس ويذهب يمنة ويسرة علّ وعسى أن يعثر على ضالته التي قد تعينه في رجحان كفته وكفة حزبه في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة، والتي تشير نتائج عديد استطلاعات الرأي إلى أنها ستكون في غير صالحهما. وبما أن سجل حكم أردوغان وحزبه مثقل بالإخفاقات على الصعيد الداخلي، دأب الرئيس التركي على الاستعاضة عن الانكسارات الداخلية بإنجازات وهمية على الصعيد الخارجي، خاصة فيما يتعلق بالارتدادات السلبية النابعة من الأزمة السورية كقضية اللاجئين السوريين في تركيا وإعادة تطبيع العلاقات مع النظام السوري والملف الكردي – السوري الذي يلبد الأجواء التركية بالحنق والاضطراب. كل ذلك برعاية وإشراف موسكو المستفيدة من التقارب بين أردوغان والأسد بما يخدم أجنداتها في سوريا ومنها إزعاج الوجود الأميركي هناك بابتزاز وترهيب شريكتها قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الكُرد بالذئب التركي، وتعميق الهوة بين أنقرة وواشنطن. ولطالما وظفت المعارضة التركية كافة النقاط أعلاه كمآخذ ضد حكم العدالة والتنمية للنيل من أردوغان والحط من شعبيته وتقليص فرص نجاحه خلال الانتخابات المقبلة. لذلك يجاهد أردوغان للتركيز على هذه الملفات وذلك اعتقاداً منه بأنه بذلك يسحب البساط من تحت أقدام المعارضة التركية، وبالتالي من شأن حلحلة القضايا المشار إليها المساهمة في إنقاذه والتعويض عن فشله الداخلي ورفع أسهم شعبيته الآيلة إلى التدهور. أغلب الظن بأن نظام الأسد مسلوب الإرادة والسيادة سيرمي بقشتة الواهنة والواهمة إلى أردوغان محاولا إنقاذه من الغرق في بحر أزماته الداخلية ومن يرى كل هذا الود والتودد الظاهري والمنفعي المحض بين بوتين وأردوغان لن يتصور بأنه قبل ثماني سنوات فقط أسقطت تركيا طائرة روسية خرقت الأجواء التركية قادمة من سوريا وأن الدولتين كانتا على حافة خوض حرب مفتوحة ضد بعضهما البعض على الجغرافيا السورية. ومن يمعن النظر في تهافت أردوغان الشكلي على التصالح مع نظام الأسد لن يتخيل بأنه حتى الأمس القريب كان أردوغان يصف الأسد بالقاتل والمجرم والإرهابي وبأن الأسد كان يصف أردوغان باللص والحرامي والكذاب والمحتال. لكن هذه هي الأخلاق السياسية في نسختها البراغماتية أو الميكافيلية الهوبزية الطافحة دولياً، وهذه هي الخصلة الرئيسية في السياسة وهي أنها غالبا تُظهر عكس ما تُضمر، وخاصة بين الدول لإعادة إحياء المصالح القديمة وبناء أرضية مشتركة جديدة لتوليد مصالح حديثة النشوء. لكن إذا كانت لعبة المصالح المشتركة، والمبنية على مبدأ “هات وخد”، على الحلبتين السورية والأوكرانية الممزقتين هي التي تبلور حالة من الجاذبية والوئام بين موسكو وأنقرة وتُقرِّب بينهما، وهذا أمر مباح وشائع ومستساغ في عالم السياسة، يبقى السؤال هنا هل ينطبق هذا على الوضع بين أردوغان والأسد؟ بصيغة أخرى، هل بإمكان أنقرة ودمشق خلق الأرضية المشتركة التي من شأنها إعادة إحياء المنافع المتبادلة القديمة ومحاولة إنتاج مصالح مشتركة جديدة نابعة من الفصول المستجدة من المقتلة السورية المشرعنة دولياً وإقليمياً؟ الجواب باختصار هو أن ما يُبعد بين النظامين الحاكمين في أنقرة ودمشق في المرحلة الراهنة هو أكثر مما يُقرّب بينهما. بعبارة أخرى، القواسم المشتركة بين النظامين التركي والسوري خلال المرحلة الحالية هي أقل حجما وتأثيرا من العوامل التي خلقت الشرخ بينهما. فما باتت تسمى بعملية التقارب التركية – السورية ذات الإدارة الروسية لا تتعدى إطار التكتيك الآني بالنسبة إلى أردوغان وحزبه نظرا إلى تزامنها مع المرحلة التي تسبق الانتخابات في تركيا وحاجة أردوغان الماسة إلى تحقيق انتصارات دونكيشوتية على النطاق الخارجي للتعويض عن الإخفاقات على الصعيد المحلي بعد عجزه المزمن عن حلحلة الملفات الداخلية الشائكة. وهذا بدوره يلقي بظلال من الشكوك حول مصداقية أردوغان وجديته في المصالحة مع نظام الأسد. لكن تركيا تلقي بالآمال على عدة أوراق مهمة تمتلكها في الملف السوري وتستطيع من خلالها اللعب والمساومة مع النظام السوري وبضغط روسي أملا في التصالح مع الأسد بما يخدم الأجندات التركية في سوريا. ومن هذه الأوراق تواجدها العسكري والاستخباراتي المكثف في إدلب واحتلالها لحوالي عشرة آلاف كيلومتر مربع في شمال وشمال شرق سوريا بما فيها المناطق الكردية، وهيمنتها على القرارين السياسي والعسكري للمعارضة السورية التي تتكئ عليها أنقرة لتمرير أجنداتها في سوريا. وهذا ما يسمح لأنقرة بالمناورة مع دمشق وإجراء صفقات ومقايضات ما بين مناطق غرب وشرق الفرات. وسبق لأنقرة أن ساعدت في تسليم الغوطة لروسيا ونظام الأسد مقابل إطلاق يدها في عفرين بداية 2018. بمعنى من الممكن أن تتخلى أنقرة عن إدلب وعن الفصائل السورية المسلحة التابعة لها في معاقلها في غرب البلاد في إطار تسوية شكلية بين نظام الأسد والمعارضة السورية التابعة لأنقرة مقابل موافقة النظام السوري على قيام أنقرة بعمليات عسكرية محدودة في المناطق الكردية لتحجيم قسد والدور الكردي وإضعاف سلطة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا وذلك في سياق التعديلات المقترحة لاتفاقية أضنة لسنة 1998. وهذه النقاط تعتبر من القواسم المشتركة التي لا يمكن الاستهانة بها بين كل من أنقرة ودمشق وطهران وبدرجة أقل موسكو نكاية بالغريم الأميركي. أردوغان يريد إيهام الرأي العام التركي المستاء من التعثر التركي في المستنقع السوري بأنه يسعى جديا للمصالحة مع نظام الأسد وإيجاد حلول جذرية لمشكلة اللاجئين السوريين في تركيا ومحاربة قسد والكرد من خلال تشييد المنطقة الآمنة أو الأمنية التركية داخل الأراضي السورية وبمحاذاة الحدود التركية لإسكان الملايين من اللاجئين السوريين وتغيير التركيبة الديمغرافية لغير صالح الكُرد، وبذلك يصطاد أردوغان عدة عصافير بحجر واحد وفق اعتقاده. هل يمكن للنظام السوري شرعنة الاحتلال التركي الراهن واللاحق للأراضي السورية ضمن هذا التفسير التركي أو التعديل المقترح لاتفاقية أضنة؟ أردوغان يسعى للتصالح مع الأسد ليوهم الرأي العام التركي بأنه بصدد تحقيق إنجاز ستؤثر تداعياته إيجابيا على الداخل التركي. لكن وكما تشير المعطيات فإن أردوغان ليس لديه الكثير ليقدمه لنظام الأسد لإتمام المصالحة وإنما كعادته فإنه يريد فقط دون أن يعطي شيئا لنظام الأسد المتهالك الذي اقتنص بدوره هذه الفرصة للمزايدات الوطنية الجوفاء وذلك بالقول بأنه قبل الشروع في أيّ محادثات مع تركيا على الأخيرة الانسحاب من الأراضي السورية التي تحتلها. وهذا يوحي بوجود تحديات جوهرية جمة في مسيرة المصالحة بين أنقرة ودمشق على الرغم من اللقاء الأخير الذي جمع بين وزيري دفاع البلدين في موسكو وعلى الرغم من اللقاء المزمع عقده قريبا بين وزيري خارجية البلدين. أمام هذا الاستعصاء ليس أمام الطرفين سوى إعادة صياغة اتفاقية أضنة لسنة 1998 أو تعديل بعض بنودها كالحق التركي في التوغل ضمن الأراضي السورية لمسافة 30 كيلومترا بدلا من 5 كيلومترات كما هو منصوص في الاتفاقية المذكورة لمطاردة الانفصاليين الكُرد، لاسيما أن أردوغان قد صرح مرارا وتكرار بأن التواجد (الاحتلال) التركي في سوريا يندرج ضمن ما ورد في اتفاقية أضنة. لكن يبقى السؤال: هل يمكن للنظام السوري شرعنة الاحتلال التركي الراهن واللاحق للأراضي السورية ضمن هذا التفسير التركي أو التعديل المقترح لاتفاقية أضنة؟ وهل التوغلات التركية القادمة حتى 30 كيلومترا في حال تعديل تلك المادة في الاتفاقية سيئة الصيت سيكون توغلا مؤقتا أم دائما؟ التاريخ والحاضر يقولان بأن كل منطقة غزتها تركيا سواء في كردستان العراق أو كردستان سوريا لم تخرج منها لاحقا. والاتكال التركي هنا يقع على روسيا لإقناع الأسد أو الضغط عليه للقبول بالمقترحات التركية القديمة الجديدة. ولا يخفى على أحد في هذا السياق بأن سجل النظام السوري حافل بالتخاذل العملي وبالمزايدات الوطنية اللفظية الجوفاء، خاصة إذا صبت هكذا مقترحات لصالح روسيا وتركيا وإيران التي تهيمن على المصير السوري القاتم، هذه الدول التي تجمع بينها معاداة وجود الدور الأميركي في سوريا وحلفائها قسد والكُرد. أغلب الظن بأن نظام الأسد مسلوب الإرادة والسيادة سيرمي بقشتة الواهنة والواهمة إلى أردوغان محاولا إنقاذه من الغرق في بحر أزماته الداخلية وأملا في مؤازرته خلال الانتخابات الوشيكة، وذلك رضوخا لإملاءات موسكو وطهران اللتين تريدان الانتقام من واشنطن وحلفائها قسد والكُرد، الأمر الذي يرضي نزوع نظام الأسد أيضا. لكن من الصعب جدا إن لم يكن من المحال أن ينجح رئيس أو نظام فقد شرعيته وصودر قراره وحول بلده الى أنقاض وركام وأرجعه عقودا إلى الوراء في إنقاذ دكتاتور آخر مهما أبدعت وتفننت السياسة في اللعب وأفرزت سمومها وقذاراتها المعهودة.
مشاركة :