أمّ المسلمين اليوم لصلاة الجمعة في المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور فيصل بن جميل غزاوي إمام وخطيب المسجد الحرام، واستهل فضيلته خطبته الأولى قائلاً: إن ربنا باري البرايا (هو ٱلَّذِي أَعۡطَىٰ كُلَّ شَیۡءٍ خَلۡقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ) هدى كل نفس لجلب ما يصلحها وينفعها، ودفْعِ ما يضرها ويفسدها، لذا فإن الإنسان بفطرته يحتمي من الآفات، ويجتنب الأذى والمخاطر والشرور والهلكات. وصور الحمية والاحتماء كثيرة، فيحتمي المرء مما يصيب جسده من العوارض والمحن كالحر والبرد، ويحتمي مما يُعرِّض جوارحه وأعضاءه للأذى وخاصة سمعه وبصره، وقد يحتمي عن بعض الأطعمة والأشربة للمصلحة، كأن يمتنع عن أكل اللُّحوم التي تضر بصحته. أيها الإخوة: وإن كان للحمية الغذائية فوائد متنوعة، وهي علاج ناجع مجرب، إلا أن هناك من تضعف إرادته وتفتر عزيمته فلا يقوى على الامتناع عما ألفه واعتاده من الأطعمة والمشتهيات، وليس بمقدوره ترك ما نصح بتركه منها، فهو يرغب فيها ولا ينفك عن تعاطيها، الأمر الذي يتطلب مجاهدةَ نفسه ومساويها حتى تمتنع عما يضر بها ويؤذيها. ومثل هذا الكلام يوجه لمن ابتلوا بتناول ما يضرهم، ويفسد صحتهم، كالدخان، أو بتعاطي ما هو أعظم من ذلك؛ كالمسكرات والمخدرات وغيرها من الخبائث، ويقال لهم: ما دمتم حريصين على سلامة أبدانكم وحفظ صحتكم وبقاء عافيتكم فلا بد من مجاهدة أنفسكم وحمايتها من تلك السموم والآفات وصيانتها عما يضر بكم من الأسقام والمساوئ والآثام، ولا يغِب عنا قولُ ربنا -سبحانهُ وتعالى- (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) فقد دلت الآية الكريمة على أن ما كان سببًا للضرر في دين المرء أو دنياه فإنه داخل في النهي، وكل شيء يضر البدن فإنه منهي عنه. عباد الله: إن منا من يحرص على الحمية البدنية ويعتني بها عناية فائقة ويسأل عن تفاصيلها، وإذا ذُكرت عنده تجرِبةٌ أن هناك نوعا من الطعام أو الشراب فيه فائدة ومنفعة صحية للبدن أقبل عليه وتنافس للحصول عليه، وإذا ذكر عن طعام أو شراب فيه من الخطر والمضرة بالبدن اتقَاه وتجنَّبه وحذَّر منه، وقد يتخذ المرء أحيانا حمية شديدة يتكبدها دفعا للداء الذي أصابه. هذا التعامل من الاحتماء البدني بهذه الصفة لا اعتراض عليه ولا حرج فيه، بل هو مما أباحه الشرع من الأخذ بأسباب التداوي والوقاية من الأمراض وهو لا ينافي التوكل على الله سبحانه، لكن الشيء الذي يسترعي الانتباه والتأمل ويدعو إلى العَجب، ألّا يكون مثلُ هذا التعاملِ والحرصِ في الاحتماء مما هو أولى وأجدر، قال حمّاد بن زيد -رحمه الله- “عجبت لمن يحتمي من الأطعمة لمضراتها، كيف لا يحتمي من الذنوب لمعراتها” ، وقال عبد الله بن شبرمة -رحمه الله- “عجبت للناس يحتمون من الطعام مخافة الداء ولا يحتمون من الذنوب مخافة النار”. وقال ابن القيم -رحمه الله- “وأضر ما عليه الإهمال وترك المحاسبة والاسترسال وتسهيلُ الأمور وتمشيتُها؛ فإن هذا يؤولُ به إلى الهلاك، وهذه حال أهل الغرور؛ يُغمض عينيه عن العواقب، ويُمَشِّي الحال، ويتكلُ على العفو فيهملُ محاسبةَ نفسه، والنظرَ في العاقبة؛ وإذا فعل ذلك سَهُلَ عليه مواقعةُ الذنوب، وأنس بها، وعَسُر عليها فطامُها، ولو حضره رشده لعلم أن الحمية أسهل من الفطام وتركِ المألوف والمعتاد”. وأضاف فضيلة الشيخ غزاوي قائلًا: لقد جربنا الاحتماء من الطعام حفاظًا على صحتنا، وقد تقرر عندنا أن الوقاية خير من العلاج، لكن هلّا عنينا بالاحتماء من الآثام والأوزار حفاظا على إيماننا، ووقاية لأرواحنا وسلامة لصحائف أعمالنا، ولنعلم أنه لو لم تترك الذنوب إلا حذرا من وقوع تلك الوحشة العظيمة التي يجدها العاصي في قلبه لكان العاقل حريا بتركها. عباد الله: للذنوب والمعاصي ضرر على القلب كضرر السموم على الأبدان، متى استحكمت قتلت صاحبها، وحالها كالأمراض الحسية، ينبغي أن نتخذ الحيطة منها والحذر بالوقاية منها واجتنابِ أسبابها. وعلى رأس تلك المعاصي والخطيئات وأوْلَاها بالاجتناب والوقاية: الشّركُ بالله وما يضاد التوحيد قال الله جل في علاه: (وَٱلَّذِینَ ٱجۡتَنَبُوا۟ ٱلطَّـٰغُوتَ أَن یَعۡبُدُوهَا وَأَنَابُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَى)، فحالُ هؤلاء أنهم اجتنبوا عبادة الأوثان واحترزوا عن الوقوع في الشرك، وأعرضوا عن عبودية كل ما سوى الله، وهذا ما دعا الفتيةَ المؤمنةَ إلى أن يلجأوا إلى الكهف؛ فقد فروا من قومهم خشية الفتنة في دينهم، وفي هذا تأكيد على ضرورة صيانة الفطرة وحمايتها من الانحراف، والأخذ بالاحتياطات والتدابير الشرعية الواقية من العقائد الفاسدة والأفكار المنحرفة والسلوكيات الخاطئة والأخلاق الفاسدة ليظل الفرد على الصراط المستقيم والمنهج القويم. وإن من المشكلات التي تعترض الشباب المسلم اليوم وتعمل على هدم بنائهم النفسي والاجتماعي والأخلاقي والسلوكي إدمانَ متابعة المواقع الفاسدة الفاتنة الآثمة بأنواعها والتي قد تدمر مستقبلهم وتلحق بهم الخسران، لكن المأمول من الآباء والأمهات والمربين جميعا أن يستشعروا مسؤوليتهم ويؤدوا الأمانة التي حُّمِّلُوها وأن يتقوا الله فيمن تحت أيديهم ومن استرعاهم الله فيحرِصوا عليهم ويسعوا سعيا حثيثا في استنقاذهم ووقايتهم وحمايتهم من هذه المخاطر الداهمة والأدواء القاتلة، بالشفقة عليهم وكثرة دعاء الله أن يهديهم ويصلح شأنهم، مع تعاهدهم بالنصح والتوجيه والإرشاد؛ مما يقوي الوازع الديني لديهم ويعزز الحصانة الذاتية حتى يتبصروا ويصبحوا على يقين من معرفة أضرار ذلك، فيبادروا إلى قطع كل ما من شأنه إبعادهم عن الجادة وترك كل سبيل يؤدي بهم إلى الزيغ والانحراف. كما أنَّ مِن أَوْلى الأَوَّلِيَّات وأعظمِ مهام التحصين والدورِ الوقائي للأسرة المسلمة حمايةَ الناشئة من الأفكار الإلحادية التي تسللت عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل التقنية المعاصرة من مواقع وشبكات مختلفة. ثم أوضح الشيخ غزاوي أنّمن سبل اجتناب الخطايا والموبقات حفظ ما أمر الله بحفظه؛ ففي الحديث المتفق عليهِ عَنْ سَهْلِ بنِ سعْدٍ رضي الله عنه قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ )مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بيْنَ رِجْلَيْهِ أضْمنْ لهُ الجَنَّة)، فاللسان يُحمى ويصان من الوقوع في الحرام وكسب الآثام، وبحفظه يحمي المرء نفسَه من موارد الهلاك والخسار، كما بين النبيّ ﷺ خطر آفات اللسان بقوله: (وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وجوهِهِم أو على مَناخرِهِم إلَّا حَصائدُ ألسنتِهِم)، والفَرْجُ كذلك يُحمى ويصان قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ)؛ لذا جاء النهي عن الزِّنَا وَعن مقاربته وهو مُخَالَطَةُ أَسْبَابِهِ وَدَوَاعِيهِ قال سبحانه (ولا تَقْرَبُوا الزنا)؛ أيْ: أدْنى قُرْبٍ؛ بِفِعْلِ شَيْءٍ مِن مُقَدِّماتِهِ؛ ولَوْ بِإخْطارِهِ بِالخاطِرِ، فتَوقِّي المرءِ سماعَ الحرام ورؤيةَ الحرام مطلب، فقد سمِعَ ابنُ عمرَ مِزْمارًا، فوَضَعَ أُصْبُعَيْه على أُذُنَيْه، ونأَى عن الطريقِ، وقال لمولاه نافع هل تَسْمَعُ شيئًا؟ قال: لا فرَفَعَ ابن عمر أُصْبُعَيْه مِن أُذُنَيْه، وقال: كنتُ مع النبيِّ ﷺ ، فسَمِعَ مثلَ هذا! فصَنَعَ مثلَ هذا. وعن وكيعٍ “رَحِمَهُ الله” قال: خَرَجنَا مَعَ سُفيَانَ الثَّورِيِّ “رَحِمَهُ الله” في يَومِ عِيدٍ فَقَالَ: “إنَّ أوَّلَ مَا نَبدَأُ بِه في يَومِنَا غَضُّ أبصَارِنَا” وفي الخطبة الثانية بيّن فضيلة الدكتور فيصل غزاوي أنّهُ مما ينبغي أن نحرص على حفظه؛ جوارحنُا وذلك بحمايتها وكفها عن الآثام، وصيانتها عن أن تكون متقبلة لكل ما يَرِدُ عليها من المعاصي حتى تألفها وتعتادها، فمما يستفاد من قوله تعالى: (وأشربوا في قلوبهم العجل) أن من لا يحفظ قلبه ويحميه من الآفات كما يحمي بدنهُ من الأمراض؛ يُدمن المعاصي حتى يحبها ويصعب أن يتحول عنها، فتقودَه إلى الزيغ والهلاك والندامة عياذا بالله. ومما يجدر التذكير به أن استقامة الأقوال والأعمال تنشأ من حراسة الخواطر وحمايتها وحفظها، ولتحقيق ذلك ينبغي عليك “عبد الله” أن تملأ القلب وتَشغَلَه بغذائه وقُوْته عن طريق ملء الأوقات بكل عمل مفيد نافع، ومن ثم يكون ما يستحوذ على عقلك وتحدث به نفسَك هو الخواطر الحسنة والأفكار الطيبة ولتحذر من الخواطر السيئة، بعدم استدعائها أو الالتفات إليها أو الاسترسال معها، لأنها بذور الشيطان في أرض القلب، ولا ريب أن دفع الخواطر السيئة أيسر من دفع الإرادات والعزائم فعليك بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم عند ورود هذه الخواطر وأن تلجأ إلى الله وتتحصن بذكره وتحتمي بحماه من شرور الشياطين لشدّة خطرهم وأذاهم لبني آدم قال تعالى: (إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذا مَسَّهم طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فإذا هم مبصرون) وقال -عزّوجل- (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُـرُونِ)؛ فَإنَّ حُضُورَهم هَلَكَةٌ، وبُعْدَهم بَرَكَةٌ، لأنهم لا ينفكون عن الشر والفَسادِ؛ فتحتمي بربك أن يحضروك في أي أمرٍ من أمورك، كما أخبر بذلك النبيّ ﷺ فقال: ( إنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ، حَتَّى يَحْضُرَهُ عِنْدَ طَعَامِه).
مشاركة :