في نهاية التسعينات، شاءت الأقدار أن الموت راح يغيّب عدداً من القادة العرب المزمنين ليحل مكانهم أنجالهم الشباب. ووجد بعضنا ان هذا الانتقال الى جيل شاب من القادة في سورية والأردن والبحرين والمغرب وربما في مصر وليبيا قد يتحول، حتى لو بقيت الديموقراطية على يتمها الجماهيري، الى فرصة لتبني هؤلاء أساليب حكم اقل تسلطاً من تلك التي لجأ اليها آباؤهم. وأقتبس هنا من حديث إذاعي مطلع 1999 ما يعطي لمحة عن الشعور الغالب يومها:» استقرار ام استمرار؟ هذا ليس لعباً بالمفردات. فالاستقرار الحقيقي، ذلك الذي توصلت إليه الدول الثابتة والأنظمة القوية يختلف تماماً عن الاستمرار. الاستقرار يقتضي في الغالب اصلاحاً في المؤسسات وتغييراً في السياسات وتبديلاً في هوية المسؤولين. الاستقرار استقرار للمؤسسات والاستمرار استمرار للشخصيات، وشتان ما بين الاثنين. فالاستقرار من دون تطور يؤدي إلى التكلّس والتجمّد وينتهي اجمالاً بدورات من العنف. أما خرق الاستمرار من خلال تداول السلطة والتناوب على الإمساك بزمامها فشرط مسبق لأي استقرار. والعرب مهووسون باستمرار الأبطال على الحلبة لا باستقرار قواعد اللعبة السياسية. اما وقد بلغنا مرحلة خريف الزعماء المخضرمين في جلّ دول المنطقة، فالأحرى بنا ان نقلع عن هذا الاهتمام الطفولي بالأسماء وأن نشرع في بناء المؤسسات. وحين يفخر عربي امام أجنبي بزعيمه المحبوب الذي عاصر دزينة من رؤساء اميركا او نصف دزينة من زعماء اوروبا، فإن مخاطبه الأجنبي لن يشاركه الفخر بل سيشعر بالشفقة على بلدان تتمسك بالزعامات ذاتها عقوداً متواصلة من الزمن وتحرم نفسها من الخبرات المتوالية في السلطة. بل انه قد يضيف في أذن مخاطبه العربي: لا يا صاح: الاستقرار الحقيقي وفي معظم الحالات ليس مرادفاً للاستمرار بل هو بالفعل نقيضه». ولكن الانتقال إلى جيل الورثة الشباب ما لبث ان أثار الخيبة، ربما باستثتاء وحيد هو المغرب حيث عدّل ذلك الانتقال بصورة ملموسة ولو بعيدة من ان تكون كاملة من قواعد اللعبة السياسية، بينما صدر عن جيل الورثة في البلدان الأخرى ما يشي بالقسوة المعروفة عن آبائهم». حريات غير متوقّعة وانتقل الأمل بعدها الى ثورة الاتصالات كحاضنة لحركة ديموقراطية جديدة. وحصل بالفعل تقدم إيجابي ملموس في مسألة الحريات العامة كان سببها الحقيقي عجز الأنظمة التسلطية عن الاستحواذ على بعض فتات حركة العولمة من دون القبول بتأمين مستلزمات ثورة الاتصالات. وبدأ الرهان بالذات على تلك الثورة. كنا نقول: كيف يمكن لتلك الأنظمة ان تستقطب المستثمرين والسياح من دون ان تقدّم لهم خدمة انترنت محترمة، وبالتالي كيف لها ان تقدّم تلك الخدمة للأجانب وتحرم منها مواطنيها، وبالتالي كيف سيمكنها بعد ذاك ان تستمر في مراقبة انتشار المعلومات والأفكار والآراء، وبالتالي كيف سيمكنها الإبقاء على مجتمعات مقفلة؟ وما لبثت ثورة الاتصالات التي اندفع معظم العرب بشراهة اليها ان كمّلت ما كانت الأقنية الفضائية قد بدأت به وهو إلغاء إمكانية الرقابة وحرمان السلطات القائمة من إمكانية الاستئثار بالخبر او من تملُّك وسائل فرض الرأي الواحد. وساهمت ثورة الاتصالات إسهاماً هائلاً، وما زالت، في إرساء الديموقراطية بوصفها تعدداً في الآراء وحرية في التعبير عنها، وتوسيعاً لرقعة النقاش وللتواصل وللتفاعل وللعدوى. وحدهم أولئك الذين لم يعرفوا عن قرب عصر الرقيب ومقصه، وأيام إذاعة الدولة من دون غيرها، وتلفزيون النظام الأوحد، ولوائح الكتب الممنوعة من التداول، عاجزون عن تقدير التطور الهائل الذي احدثته ثورة الاتصالات في مجتمعاتنا العربية. ولكن تلك الثورة لم تنجح في تسهيل بزوغ فجر الديموقراطية في معناها الآخر، والذي لا يقل اهمية، كتداول سلمي للسلطة، ولا في ترجمة الاتساع الحقيقي في مساحة التعبير الى مؤسسات ثابتة تحتضنه وإلى تعديلات عضوية في بنية السلطات القائمة، اذ تبدّى لنا ان الناس في بلداننا راحوا يستمتعون بالوسائل الحديثة للتواصل والتنكيت والانتقاد والشكوى، انما نادراً ما لجأوا اليها لتكوين جماعة ضاغطة فعالة في سبيل مؤسسات ديموقراطية. هكذا توسعت فعلاً رقعة الحرية ولكن الديموقراطية بقيت على يتمها. وزاد الطين بلة اننا، ونحن نتمتع بهذه الحريات غير المتوقعة وغير المسبوقة، ما لبثنا ان وقعنا امام تحدّ جديد، اذ بدأت تباشير فكرة غرس الديموقراطية من طريق التدخّل العسكري الخارجي تظهر للعيان، واضعة أهل الديموقراطية، على قلتهم وهامشيتهم، امام امتحان عسير. وبدأ المحافظون الجدد في الولايات المتحدة، حتى قبل وصولهم إلى السلطة في جعبة بوش الابن، يطرحون مشاريع من هذا النوع، لاسيما في العراق. وكنا سمعنا أفكاراً مشابهة مطلع ١٩٩١ من دعاة الاستفادة من حرب الكويت للانقضاض على بغداد وإطاحة نظام البعث فيها، وتخوفتُ يومها من هذا الجنوح قائلاً ان من شأن هكذا عملية «ان تمزّق العراق وتدفعه الى أتون حرب اهلية مديدة تكوي العراقيين بنارها وترعب الخليج بأسره، ناهيك عن تناقضها الصارخ مع القرارات الدولية التي تتحدث عن اعادة الكويت الى أهلها وحسب». وحين صوّت الكونغرس الأميركي في صيف ١٩٩٨ على «قانون تحرير العراق»، كتبت: «... ويريدون ألاّ نرى اي رابط بين مشاريع الكونغرس لإسقاط النظام العراقي وبين شفاه المستر بتلر المقلوبة وهو يتحدث عن فشل مهمته الأممية في بغداد، وكأن هذه وتلك لم تحصلا في اليوم نفسه، ووفق المنطق ذاته، وللأهداف ذاتها؟ لست أدري كيف تصمت الدول العربية عن اختراق بهذه الخطورة؟». وأضفتُ في تعليق لاحق: «هناك ألف سبب شرعي لكي تنشأ في العراق، كما في الدول الاخرى من دون استثناء، معارضة سياسية تعمل على تغيير الحكام والحكومات واستبدال السياسة والسياسيين. فالمعارضة أمر شرعي، وأمر صحي ايضاً، في العراق كما في الدول التي تناصبه العداء. أما ان تضع المعارضة العراقية شأن تنظيمها وتمويلها وتدريب اعضائها على عاتق الادارة الاميركية وهيئة استخباراتها، فهو ما لا يمكن القبول به وهو تجاوز لكل الخطوط الحمر التي يمكن تصورها». لكن النتيجة بقيت في الواقع مخيبة، فلا أُصبنا بعدوى الموجة الديموقراطية التي اجتاحت العالم في الثمانينات، ولا نَفَعَ بعدها التماس الأوضاع الواقعية لابتكار مكنزمات ديموقراطية في غياب قوى تحميها، أي «ديموقراطيات بلا ديموقراطيين»، ولا وجدنا دواءً للتسلط العربي في تبني القوى السياسية الشكلي للمفردات الديموقراطية، كما لم ينفع في شيء يذكر انتقالُ القيادة بالوراثة الى جيل جديد، ولا تمكنّا من ترجمة اتساع رقعة الحرية الى مؤسسات سياسية تحدُّ من التسلط. لم تبق معضلة إرساء الديموقراطية على حالها وحسب، بل باتت أصعب حلاً بسبب اندفاع الغير لفرضها علينا بالقوة. كانت الديموقراطية العربية يتيمة ولكنها وجدت في الغرب المنتشي بخروجه فائزاً من الحرب الباردة عمّاً أميركياً يتبنّاها، ما ضاعف من حرج أهلها الاصليين الذين بات عليهم ان يستمروا بالمطالبة بها بينما هم يحاولون الحفاظ على استقلالهم عن العمّ الأميركي التدخلي والفظ الذي أعلن أبوته لها. وسنرى من أعمال ذلك العمّ الدخيل في العراق وفي غيره من البلدان ما يجعلنا نترحم على تلك الأيام التي كانت ديموقراطيتنا يتيمة لا يدّعي مشاركتنا حبها أحد من الغزاة القساة، ولا من ركب، من أبناء جلدتنا، على دباباتهم للتنعُّم بها. والحق يقال ان محاولات كوندي رايس والناتو ولاحقاً هيلاري كلينتون الوصول للهدف نفسه من خلال مشاريع فضفاضة كالشرق الأوسط الموسع، بلا دبابات وإنما مع قدر من التمويل الخارجي، وتدريب المئات من الناشطين في صربيا وبلغاريا، وتعمّد التقاء المسؤولين الغربيين الذين كانوا يزورون بلادنا بمدّعي تمثيل المجتمعات المدنية، ما كانت اقل ضرراً بكثير من دبابات بوش، اذ امتعضت منها حكوماتنا من دون ان تعطي اولئك النشطاء الكثير بل هي أضعفت صدقيتهم الشعبية كمحظيين بالحماية والدعم الغربيين. تقدُّم ملموس في مجال الحريات بفضل ثورة الاتصالات، خيبة تكاد ان تكون شاملة من الحكام الشباب، ارتباك ازاء صعود التيارات الدينية، حرج بسبب هوس الغرب بتصدير الديموقراطية الجلف إلينا. تلك كانت بالأرجح عناصر الصورة العامة، مع بعض الاستثناءات المحلية في أواخر عام 2010 يوم أحرق بائع جوال من جنوب تونس نفسه وفتح الباب واسعاً امام فرصة جديدة لكي تجد الديموقراطية العربية أخيراً أهلها. نوع من الاختناق بدا لنا فجأة ان العناصر المواتية لتحول ديموقراطي التي كما لمسناها في السنوات السابقة لم تكن عقيمة فعلاً بل هي كانت تعتمل في احشاء مجتمعاتنا وتختمر وكأنها تنتظر يومها لتُثمر. واعتقدنا ايضاً بأن المعوّقات التي اصطدمت بها مسيرة الديموقراطية قد انحسرت تدريجاً وبات تجاوزها ممكناً ان لم يكن مضموناً. وانتشرت الاحتجاجات كالنار في الهشيم من تونس الى مصر، ومن ليبيا الى سورية، ومن البحرين إلى اليمن، وشعرنا في لحظة ان يُتم الديموقراطية قد انتهى بعد انتظار فاق قرناً من الزمن وأن أهلها قد خرجوا في الشوارع يطالبون برحيل الأنظمة الهرمة وبالحرية وبالمشاركة الشعبية، وأن حاجز الخوف قد انكسر من دون رجعة، وأن مرحلة ليبرالية ثالثة من تاريخنا باتت في المنال. لكن الأمل تحول تدريجاً الى خوف، ودخل العنف أداة للقمع ثم أداة للاحتجاج أيضاً. شهدنا رحيل بن علي ومبارك والقذافي ونصف رحيل لعلي عبدالله صالح، لكن الحركة اصطدمت بعوائق متينة في سورية والعراق، وما لبثنا ان رأينا كلاً من هذه الحالات التي كانت تبدو متماثلة تأخذ طابعها الخاص ومسلكها المتمايز. فلم تقم في ليبيا دولة على أنقاض النظام المنهار، ولم يسلّم المسلحون سلاحهم بل تكاثرت اعدادهم. اما في اليمن فبدا ان قيام نظام دستوري جديد امر ممكن تعززه مصالحة نتاج حوار موسع قبل ان ينهار كل شيء، من سقوط العاصمة في ايدي فريق مسلح بذاته الى قيام تحالف اقليمي بالرد عسكرياً، ما اوصلنا إلى المأساة التي نرى. اما في مصر فرحل رئيس وتعددت الدورات الانتخابية الى حد الملل، ودخل الجيش معترك السياسة بتسلم القرار، ثم بما بدا لحين وكأنه قبل بنتيجة الانتخابات الرئاسية قبل ان يعود مجدداً إلى واجهة القرار بعد مزيج من الاحتجاج والانقلاب. أما في سورية فلا حاجة للشرح عن مأساة نالت من حياة نحو 300000 مواطن وشردت الملايين على طرقات النزوح. وبدت تونس نوعاً من الاستثناء الهش لهذه التحولات السلبية الدامية، وفيها ما يثير القلق من عنف دفين او عودة منطق سابق. لست ممن تحدثوا عن «ربيع» بالأمس لكي اتحدث اليوم عن «خريف» ولا اعتقد بأن استعارة فصول الطبيعة مفيد في فهم ما يحصل امامنا، لكننا لا ريب نُجمع على القول إنه ليس عُسراً وحسب بل نوع من الاختناق الدامي لأي امل بتحول حتى في تلك الدول المستقرة ظاهراً، فلا تقدم ملموساً للفكرة الديموقراطية في دول الخليج باستثناءات قليلة ضيقة، ولا في الاردن، وهناك تراجع خطير في حيوية المؤسسات الدستورية في لبنان، وقلق على الغد في الجزائر. هناك ألف سبب لتعثّر التحول الديموقراطي، منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي، منها ما هو امتداد لمراحل التسلط ومنها ما هو انعدام الخبرة عند الحكام الجدد، منها ما هو عام على مسافة المنطقة ومنها ما هو خاص بساحة من دون غيرها. وآمل بأن نتمكن من تبيان جل هذه الاسباب كما من توصيفها وتوزينها، وأذكر منها بالذات توافر المال الريعي بكثرة، وهشاشة الطبقات المتوسطة، وضعف مؤسسات الدولة، كما آمل بأن نتعرف بدقة اكبر على هوية المحتجين وعلى حقيقة ما كانوا يعتبرونه اساسياً بين مطالبهم، وعن مدى معرفتهم بشروط الحياة الديموقراطية واقتناعهم بضرورتها. فليس كل اعتراض على تسلط مؤشراً إلى المطالبة الديموقراطية، فقد تعترض على مستبد لأنك تفضل استبداد غيره، وقد تستهويك الديموقراطية شرط انها تساعد مشروعك ولكنك تنبذها ان لم تفعل. وبالارتكاز على عدد كبير من اللقاءات والمداولات مع اشخاص انخرطوا في هذه السيرورات، سأكتفي من جانبي من هذه الأسباب بواحد هو تماماً ما ذكره زميلي هيرميه عن مسلك «النخبة المؤسِسة» بوصفه عنصراً شديد التأثير في حظوظ نجاح التحول الديموقراطي من عدمه. فمن شروط النجاح ان تكون تلك النخبة غير ملتزمة إسقاط النظام السابق وحسب، وغير ساعية إلى الحلول مكانه وحسب، انما حريصة ايضاً على ابراز تعلقها بنظام بديل لا يكون صورة مقلوبة للنظام الذي وقع بل بديلاً حقيقياً عنه. اعتماد المراحل أولى مزايا تلك النخبة هي عدم الخلط بين المراحل. ففي المرحلة الانتقالية حين يكون الهدف الأساس هو وضع قوانين اللعبة من دستور وقوانين انتخابية، من المفيد ان يغلب منطق الحوار والتوافق، كما الاحتكام لمؤسسات المجتمع المدني، كما قد يكون مفيداً طلب العون من مؤسسات خارجية وعدم اعتماد قاعدة التصويت بمن حضر اطلاقاً. ومن المهم تماماً عدم سلق المراحل، خصوصاً في صياغة الدستور. ان تحديد زمن للسيولة السياسية غير المجمدة مؤسسياً امر مفيد، ومن الافضل ان يكون ذلك الزمن محدداً مسبقاً بما لا يقل عن عام، تتسلم خلاله دفة الأمور بالأفضل مجموعة لها صفة تمثيلية من دون ان تكون لها مطامح بدور بارز بعد انتهاء الفترة الانتقالية. وإذا تسلم الجيش السلطة في تلك المرحلة فعليه الاكتفاء بحفظ الامن وحماية العملية السياسية من دون التدخل المباشر او غير المباشر بها. ومن المهم في تلك الفترة ان تتنبه النخبة المؤسِسة الى عدم مضاعفة عدد الاطراف التي قد تعرقل العملية، ويكون ذلك بالتسامح مع الأقليات الفئوية، لغوية او مذهبية، وبإعطائها تمثيلاً في المؤسسات الجديدة يفوق نسبتها في المجتمع، كما من المهم عدم إطلاق التهديد والوعيد بحق قوى الجيش والأمن ولا العمل على الثأر منها ما يحولها بالضرورة الى قوى كابحة، بل قد يكون ضرورياً ان تعطى المؤسسة العسكرية بعض الضمانات المرحلية بحيث لا تطبّق قاعدة خضوع المؤسسة العسكرية للسلطة المدنية، وهي من اهم عناصر الحياة الديموقراطية، إلا تدريجاً. اما بعد اعتماد قوانين اللعبة فينبغي الانتقال الى ما يشبه تقديسها وفي الأقل احترامها والانتقال تدريجاً من منطق التوافق الى منطق حكم الغالبية. لقد تشرفت بالمساعدة على توصل الاحزاب التونسية الى ميثاق متكامل لمسلكها قبل انتخابات 2015 الأخيرة وخلالها وبعدها، وجرى التوقيع عليه في اجتماع مهيب في آخر تموز (يوليو) الذي سبقها. ومن اهم الأمور التمسك بعدم اعادة عقارب الساعة مراراً وتكراراً الى الوراء بالتعهد بقبول نتائج الانتخابات الأولى بعد المرحلة الانتقالية وتسليم السلطة الهادئ لمن فاز بها. وهذا يعني بالذات انه تقع على النخبة المؤسسة مسؤولية تحضير الأذهان بأن مقولات بعضهم السابقة عن سعة شعبيته وعن عدد مناصريه قد تكون اوهاماً، وأن على كل عضو من اعضاء تلك النخبة ان يهيّء مناصريه لتقبُّل نتائج من الصندوق غير تلك التي توهموها او غير تلك التي يعتقدون بأنها تعود لهم بالنظر إلى دورهم في إسقاط النظام السابق. وحين تكون عناصر المجتمع السياسي غير مكتملة، لاسيما بسبب ضعف او انهيار اجهزة الدولة او حتى عدم وجودها بالأساس، فالأولوية هي للاهتمام بمصالح الناس الاساسية، من أمن وعدل قبل الشروع بأي شيء آخر، ومن الضروري ان تعتبر النخبة المؤسسة ان من مسؤولياتها العمل على عودة اجهزة الدولة للعمل، وعلى تأمين الحد الأدنى من التقديمات الاجتماعية لئلا يُنظر اليها وكأنها مهتمة بالشأن السياسي والنزاع على السلطة وحسب، ما يضعف شرعية المؤسسات الجديدة قبل تدشينها. أما عندما يكون المجتمع منقسماً وفي حال من التحارب الداخلي الساخن أو البارد فإن تغليب المصالحة على الانتخاب امر بديهي. وإذا كان تأجيل الانتخابات الى ما لا نهاية امر خطر فإن اجراءها قبل ان تتأمن لها فرص النجاح والنزاهة امر أخطر بكثير. ليس بوسعك انتقاد انتخابات تتحكم بها اجهزة الأمن وأنت في المعارضة وأن تؤيد انتخابات تحت بندقية الميليشيات بعد ان تنتصر ثورتك، فالانتخابات في ظل الانقسامات الفئوية الحادة ليست أكثر من تعداد سكاني طائفي. والانتخابات من دون تأمين مسبق وحقيقي لحرية الترشح والاختيار هي مجرد شرعنة للبندقية الميليشيوية. ومن الضرورة القصوى اعتماد المنهج الاحتوائي لا الإقصائي. وأود القول بصراحة انني عندما وصلت إلى العراق غداة سقوط نظام البعث لم يفاجئني امر، قدر استعداد المئات ممن كنت اعرفهم سابقاً او كنت تعرفت عليهم هناك، من موظفين عسكريين ومدنيين، للعمل في مؤسسات الدولة حتى وهي تحت سيطرة الاحتلال. كان في مسلكهم بعض انتهازية ربما، ولكن كان فيها عنصر اهم وأقوى وهو أنهم كانوا يميزون بوضوح بين النظام المنهار وبين الدولة المستمرة. وأعتقد جازماً بأن «داعش» ما كان ما هو عليه اليوم وأن العراق ما كان على ذلك التشظّي الذي هو عليه الآن، لولا القرارات الصادرة بعد الحرب، لاسيما حل الجيش واجتثاث البعث. وأذكر تحديداً عشرات الضباط الذين كانوا يعبّرون عن عدم تفهمهم لإقصائهم كما لا أنسى ما أجابني به مسؤول أميركي أرسلني كوفي انان لمقابلته ولمحاولة إقناعه بعدم تطبيق قانون الاجتثاث، على الأقل في القطاع التعليمي: «أفضل ان يتسلّم قطاع التعليم امّيون من ان يبقى بيد بعثيين». ورأيي ان القيادات الليبية اخطأت تماماً باعتماد مبدأ إقصاء من عمل في النظام السابق، فهي أقدمت بذلك عملياً على التصرف مثل النظام البائد بالخلط بين منطق الدولة ومنطق النظام، وزادت من الشروخ داخل النخبة البديلة، كما حرمت نفسها من خبرات كانت في أشد الحاجة إليها. اما بالنسبة إلى علاقة الديموقراطية بالتنظيم الجغرافي فإن تجربة السنوات الخمس الماضية تثبت برأيي بما لا يدع مجالاً للشك إلحاح إعادة النظر برؤيتنا لمركزية السلطة من توزُّعها. وإذا قبلنا ان الديموقراطية تتطلب توزعاً للسلطة على مختلف المؤسسات فلا ضير ان نقبل ايضاً بتوزعها على مختلف المناطق. اما هوس نخبنا بالمركزية فهو صورة عن روح التسلط المتجذّرة في ثقافتنا، اذ يصعب على الثقافة المتسلطة القبول بالتعددية في مختلف أشكالها بما فيها الجغرافية. اما إلحاح المراجعة فسببه ان ليس من نظام ديموقراطي لا يقبل بنسبة ملموسة من نقل السلطة من المركز إلى الأطراف، وسببه الآخر، وهو أكثر حدة، هو ان اللامركزية بل الفيديرالية لها معنى عندما تُطرح كبديل لسلطة مركزية قائمة ولها وظيفة مختلفة تماماً عندما تكون وسيلة لإعادة لململة ما تشظى وافترق. أخلاقيات القادة الجدد ومن المزايا المطلوبة من النخبة المؤسسة، خصوصاً حين كان الاحتجاج موجهاً نحو فساد النخبة السابقة هو طبعاً قدر من التعفف والزهد لا استمرار منطق النهب والاستحواذ على حساب الممتلكات العامة او الافراد. كتبت بعد «ثورة الياسمين» ان فيها بعداً اخلاقياً واضحاً ولكني لم ار شبيهاً له خارجها بالفعل، مع بعض الاستثناءات في مصر. ان تميّز النخبة المؤسسة بما يشي بوضوح انها لا تستغل موقفها الانتقالي للإثراء او للحياة الرغيدة، في غاية الأهمية لبناء شرعيتها الهشة غير المبنية بعد لا على تفويض ولا على انتخاب. ففي المراحل الانتقالية، وقبل ان يتمكن الناس من اختيار ممثليهم بحرية، تبرز اخلاقيات القادة الانتقاليين كأمر حيوي يحل بديلاً من الشرعية المؤسسية التي ما اكتملت عناصرها بعد. فإن كانت النخبة المؤسسة على قدر من الفساد او العنف او الاستهتار بمصالح الناس او الجبن او الارتماء بحضن الأجانب، فإن خواء شرعيتها السياسية يبرز للعيان بصورة اقوى وتتزعزع المؤسسات الجديدة قبل ان تتجذر. ليس من قياس يناسب كل تجارب التحوّل، وما هذه الارشادات العامة الا بعض من المؤشرات الدالة على تحوّل واعد. يقيني ان ليس فيها ما يخالف المنطق، وأن النخبة المؤسسة قادرة على فهمها واستيعابها بل على تطويرها. اما لماذا لم تلجأ اليها فمرده ليس بالضرورة ضعف وعيها بقدر ما هو ضعف تعلقها بالديموقراطية، لأنها لا ترى فيها أكثر من وسيلة متاحة بين غيرها للوصول الى السلطة، او لأنها ترى مهمتها التاريخية في اسقاط نظام لا في استبداله، او لأنها تعتبر الديموقراطية اقل نبلاً وسمواً من اهداف اخرى كالتحرر او تطبيق الشريعة أو ما شابه. ويقيني ان العُسر الذي ضرب محاولات التحول الراهنة لن ينحسر الا إذا تعلمنا من هذه التجربة ان الديموقراطية هدف سام بذاته ولذاته. يومها يكون للديموقراطية اهل ونكون نحن اهلها وأهلاً لها. * أستاذ العلاقات الدولية في جامعة باريس. والنص محاضرة ألقاها في مؤتمر «خمس سنوات على الثورات العربية: عسر التحوّل الديموقراطي ومآلاته» الذي نظمه الأسبوع الماضي في الجامعة الأميركية في بيروت، «معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية» بالتعاون مع «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات». ديموقراطية يتيمة: أسّسها الوجهاء وألغاها العسكر بلا اعتراض (1 من 2)
مشاركة :