أمجد توفيق: الإنسان والحياة محور دارت حوله أعمالي كلها

  • 1/20/2023
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

كاتب مرهف، حسه يأخذك وكأنه يهيم بك إلى ما سيأسرك.. هو واحة من جمال... شغل مناصب عدة وأدار عددا من المؤسسات الإعلامية وترأس تحرير العديد من المجلات المتخصصة أدبا ونال جوائز ودروع في المهرجانات راويا.. أمجد توفيق ينثر أمام وعي قارئه ما يولد لديه الشعور بالحقائق لما توافر عليه من فرادة في السرد. أمجد توفيق منصف حتى في إطرائه!! وهو القائل بأن القصة تختلف عن الرواية فنا ولكنها ليست دونها حكمة ورصانة ورسالة.. حاورته وقد شعرت بأن جرحا كان قد آلمني قبل أن ألتقيه فبلسمه لي دون إدراك منه... تعالوا معي لتعرفوا من هو هذا الكائن. قبل الخوض في ما له علاقة بإبداعكم لا أدري كيف لمعاين على المشهدين الأدبي والثقافي بالعراق وهو يرى أن اتحادا لأدباء وكتاب عراقيين تخلو قائمة مجلسه المركزي من ثلاثة أسماء أولهم شاعر الأمة العربية د.محمد حسين آل ياسين والثنائي الذي يمثل ركيزة من ركائز أدب العراق وهم د.طه حامد الشبيب والأستاذ أمجد توفيق، ليضطر آل ياسين أن يتصدى ويصرخ بضرورة أن يعيد الاتحاد نظره في قانونه الانتخابي. وأنت أحد سادة الرواية في العراق ما هو توصيفكم لهكذا دلالات؟ مع احترامي وتقديري للدوافع التي تكمن خلف سؤالك، أقول بأن اتحاد الأدباء منظمة مجتمع مدني شرفه أن يخدم الفئة التي يمثلها، ويفتح بوابات لتنشيط مسعاه، عمله إداري خدمي وليس إبداعيا، فالاتحاد لا يصنع مبدعين وليس بمقدوره قتل موهبة مبدع حقيقي، الأمر الذي لا يقتضي أن يكون ألمع المبدعين وأهمهم على الساحة متصدرا للمهام الإدارية والخدمية التي يؤديها، فضلا عن ذلك فالمجلس المركزي يشكل على وفق اختيارات الأدباء الذين يشاركون في انتخابات دورية، قد يكون الاختيار ضعيفا وخاضعا لاعتبارات ليس إبداعية، ولكن هذا هو واقع الحال، وهو واقع غير صحي. ولنا أن نستذكر بأن قادة أي مهمة سواء على مستوى الحكومة أو منظمات المجتمع المدني ليسوا هم الأفضل، فوزير الصحة ليس الطبيب الأول ووزير الدفاع ليس العسكري الأول وهكذا بالنسبة إلى بقية المواقع. في العمل الروائي دون الأجناس الأدبية الأخرى أرى أن هناك ما يشي بتبلور ظاهرة أمست كمتلازمة في أعمال العديد من الروائيين العراقيين والعرب وحتى من دول أوروبا وأميركا اللاتينية تلك المتمثلة بما أسموه هم بتلاقح الأفكار وما حسبه الآخرون سرقة تحمل كل معاني هذه الكلمة حتى أن بعض علماء أنثروبولوجيا كتبوا من خلال مؤلفات لهم على تطابق لمأثورات شعبية كمخرجات لمبدعين ينتمون إلى قارات متباعدة... أين هي رؤية أمجد توفيق من إشكالية كهذه اليوم؟ تلاقح الأفكار أو وقع الحافر على الحافر أمر ليس جديدا على مستوى الإبداع العالمي، وهو أمر مختلف عن السرقة أو التقليد أو التأثر الذي يكشف ضعف قدرة المبدع ودونيته أمام أعمال الآخرين. هناك من يظن أن التراث الإنساني ملكه وركيزة مهمة من ركائز البناء الذي يعتمده، ذلك أن تمثل التجارب ووعيها يضيف إلى المبدع مساحات وآفاق جديدة. لكن ما يحدث اليوم أشبه ما يكون بتقليد هش لتجارب الآخرين، وهناك من يتمسك بأقوال ومعايير غادرها قائلوها الأصليين. ثمة عمليات تجميل صنعت وجوها متماثلة من نساء حاولن التشبه بنجمة ما، ذلك أن عرابي العملية مستفيدون من قدرتهم على تسويق عملهم، وهناك أعمال أدبية تمثل تقليدا يعتمد على وصفات نقدية أو معايير لعلماء السرد ومنظريه. ما يقود إلى خيانة مزدوجة خيانة أسس الإبداع وغياب الصدق. ما زلت أقول: إن المعايير التي توصلت إليها المدارس النقدية قائمة على دراسة وتمثل أعمال إبداعية سابقة وفائدتها تكمن في زيادة وعي المبدع، لكنها لن تكون أبدا وصفة لنص جديد. المبدع الحقيقي قادر على تهشيم المعايير السائدة لصالح معايير جديدة يخلقها النص الجيد. فالرواية الجيدة تدهشك بجمالها وفكرها ولغتها وبنائها الذكي وثراء مبدعها وخزينه المعرفي، والتقليد أعجز من أن يوفر هذه المساحات الجمالية. أنتم معشر الرواة والقصاصين تعيبون على ما ترونهم سذجا وهم يذهبون إلى أن الشعر ولما كان هو ديوان العرب وأن القائلين به هم أقرب إلى النبوءة خلقا فلا بد أن تكون لهم الرفعة للإمساك بآليات التأثير والخلق والتغيير على مستوى بنية المجتمع... منزلة الإلهام حيث تسلط شياطين الشعر على أذهان هؤلاء الكائنات، في حين أنكم بإزاء صنعة بمقدور أي مبتدئ أن يتداولها لأن أدواتها متوافرة لغة وبناء وفكرا وجمالا وتجربة معرفية للمبدع وهذه من المبادئ التي نراها متيسرة لكل راغب بتعليم.. ما قولك؟ على مستوى الوعي الجمعي ما زال الشعر ديوان العرب. ولا أظن أن في الأمر منافسة بين الشعر والسرد، فحديقة الإبداع تضم ورودا من أنواع كثيرة، والإعجاب بزهرة ما ليس موجها ضد زهرة أخرى، وكل الأنواع تشترك في جذر واحد هو القيمة الجمالية المتحققة. وأشك حقا بقدرة المبدع سواء كان شاعرا أو روائيا على التغيير المجتمعي، ذلك أننا ما زلنا مختلفين على المبادئ والأولويات، ولا شيء ينتهي لدينا أو نصل إلى قيمة ثابتة معترف بها، ولك أن تطرح قضية الشعر العمودي والشعر الحر في أي مجلس لينفتح حوار غير مرشح للانتهاء، برغم أن الأمر مناقش لآلاف المرات ومنذ أكثر من سبعين عاما. ثمة مشكلات عميقة تمنع قدرة المبدع على التأثير، فما زالت القنوات الفضائية ووسائل الإعلام تعلن عن كل شيء إلا الكتاب، وما زالت الكتب منتشرة على أرصفة المتنبي بينما تعرض الأحذية خلف زجاج نظيف. أما توزيع الكتاب وضمان وصوله إلى القارئ فهي مهمة أشبه ما تكون بالمستحيلة في ظل غياب مؤسسات رصينة للتوزيع. دواوين الشعر تشكو من فقر فادح في التسويق والروايات والقصص ليست أحسن حالا بكثير. وكل قول خلاف ذلك محض تفاؤل في غير موضعه. وهو يدلي بما أملته جوارحه مجتمعة عليه.. نرى الروائي يغوص في وعيه ولاوعيه مؤوّلا ومغريا تارة ومختزلا ومؤدلجا تارة أخرى وهو يتماهى مع تناص هنا وتكنية هناك وعند اللحظة التي يرى أنه قد أنهك فكره يعاود ودونما هوادة حتى ولو ساح بنا بلغة مقعرة لا يهمه، فما يبغيه هو تصوره وقناعته في أن القول في كل تلك التنقيبات هو الذي يجعل منه فارساً مبدعا متبوّئا مقعد الإبداع ونحن نرى أن ما يذهب إليه هذا المبدع إنما هو سورَة وَهم، فالإبداع الحقيقي هو أن تصل فكرة لي ولنا ولهم ولكن من خلال خلطة لا توجب (الحشو اللاجدوائي).. محاكاة لمدركاتنا لا إشباعاً لنزوات الراوي حتى لو عبر رواية من عشرة أسطر لافتات محكمات كأنهن آيات مقدسات، فهل في ما نقول تجنياً؟ قول ساخر يحمل الكثير من الألم، هؤلاء ليسوا مبدعين حقيقيين، وسيتساقطون. في العقود السابقة ظهرت أسماء كثيرة في الشعر والسرد وكانت لها حظوة كبيرة في وسائل الإعلام، فمن بقي منهم؟ ماذا حل بعشرات الشعراء والقصاصين الذين برزوا في الستينات والسبعينات والثمانينات. في كل عقد يظهر العشرات، ينشطون وربما يصدرون عنوانا أو أكثر، ثم لا يلبث كل ذلك أن يغيب ويختفي بلا أثر. العبرة في القدرة على التواصل وتعميق التجربة والإنجاز. الغريب أن الرواية اليوم أصبحت صرعة ينبغي أن تمارس من قبل الجميع، فنان يكتب رواية، شاعر يكتب رواية، موظف متقاعد يكتب رواية، شاب في مقتبل عمرة يكتب رواية، وكأن الأمر واجب ليس لأحد التخلي عنه، ولأنهم لا يمتلكون قدرة مواجهة أعباء كتابة رواية تتوفر على آلياتها وقيمها الجمالية، تسقط هذه الأعمال في شرك كتابة تجارب شخصية أشبه ما تكون بمذكرات. أنت واحد من الرواة الذين نراهم لا يضعون ضمن أولويات عمل مجسات إبداعهم أهمية للتزاحم التشكيلي والصراع داخل بنية النص، لتبدو لنا وكأنك قاص لتدفعنا ومن دون سابق تأمل أن نعيد حساباتنا لمعرفة مّن نحن؟ تبث وكأنك مصلح أو رجل دين أو روزخون حتى، فهل نحن مصيبون في إدعائنا هذا؟ إن كان فهمي صحيحا للسؤال، أقول: لست مصلحا ولست رجل دين، أنا كاتب مهموم بالقيم الجمالية، وبغيرها لا يكون الإبداع إبداعا. لم يعد العمر يسمح بالتفاخر فتلك صفة يتكفل الزمن بإذابتها، والزمن نفسه يضعف الثقة في المستقبل أمام ما نشهده من توحش. رؤيتي، وقلقي الإنساني العميق يرتبط بشكل ما باليوم الذي كتبت فيه الآلهة الحياة الأبدية لنفسها وكتبت الموت على بني البشر، أليس هذا جوهر الاعتراض الذي حمله كلكامش في بحثه عن عشبة الخلود؟ وحين عاد خائبا لم يجد إلا أن يدلل الصغير على كتفه والمرأة في أحضانه ويبحث عن العمل الذي يضمن خلود الذكر. كان هذا رد كلكامش، ومن يومها ما فتئ الإنسان يبحث عن معنى جديد وأفق يزيد سعة الحياة ويمنحها مسوغات التفاؤل، وهو يعرف أنه محكوم بالموت لا محالة.  ولأننا زائلون، فمن المعيب ألا تكون رسالة الأديب والمبدع في أي زمان ومكان صادقة منتمية للإنسان متعاطفة مع همومه مناصرة له في تحدياته التي يواجهها أعزلا إلا من الإرادة.  السؤال سيف، والإجابة غمد، السؤال نار والإجابة ماء. في كل ما كتبت لم تبرد نار السؤال يوما، ولم تكن ماء الإجابات مؤهلة لإطفاء شرارته. كنت أفكر: هل هناك رصاصة تستطيع أن تفرق بين المجرم والبريء، بين الطفل والمرأة، بين المقاتل والمسالم؟ وحين أدركت أن الرصاصة غير معنية بما أفكر به، ذلك أنها مصممة لاختراق الجسد الحي، لم أجد أمامي إلا أن أسحب ثقتي من كل رصاص العالم.  الرواية أو القصة التي لا تستجيب للقلق الإنساني ولا تستجيب للذاكرة حين تكتوي بنيران الحروب، لا تستحق زمن قراءتها.  والرواية أو القصة التي تتردد في تناول كل ما يحيط بالإنسان من دين وجنس وأفكار ليست سوى محطة للتسلية لراكب قطار يرمي ما قرأ في أول محطة.  لا أومن برواية لا تمنحني المتعة، والمتعة التي أقصدها ليست تسلية عابرة، إنها تثير الحافز لخوض تجربة ودونها تفقد شرطها وتأثيرها. في روايتكم الأخيرة 'ينال' أرى أنه لا يمكن لأي كائن أن يحظى بإلمامة عن فحوى الرواية من خلال نظرته الإسقاطية الأولى على العنوان، وأدهشني ذهاب عديد الذين أطروا بكم وأنتم تختارون العنوان بحرفية وعلمية ودقة ليعبر عن المضمون! أرى أن في ذلك قفزاً على الواقع بل مجاملات في ما يقولون، نرى في روايتكم التي أشبعت حتى التخمة نقدا إيجابيا ليقول بعض العامة والذوات بأن ما جاء به أمجد يعد انتقالة على صعيد الرواية العربية.. أحسدك على إتقانك فيها وإبداعك وتألقك إلا أنني وآخرون نرى أن تشفيرك للعنوان الصادم جاء تقليدا لما كان ومازال عليه زميلكم الروائي طه حامد الشبيب. نرجوك أن تكشف لنا حقائق روايتك الأخيرة لماذا في هذا التوقيت، حيث يرى بعض المشاكسين أن ما جاء فيها كنت محتفظا به منذ 20 سنة، ولماذا هذا التوصيف في العنوان؟ العنوان، عتبة النص الأولى أو ثريا النص كما يقولون، وأعتقد أن عنوان روايتي 'ينال' واضح وقد تحدثت عنه في مدخل الرواية مرة، وعلى لسان حامل الاسم مرة أخرى، إلى ذلك فهو غير مرتبط بأي شيء آخر خارج الرواية نفسها. إن أهمية الرواية وما لاقته من اهتمام نقدي واسع ينبع في تقديري إنها تناولت حقوقا لم تعترف بها البشرية يوما عبر بناء فني يحدوه الصدق والاهتمام الجمالي لا غير. إن الحق في الصمت، والحق في مناقضة الذات، والحق في الرحيل المطلق بما فيه حق الانتحار، أمور مارسها بطل الرواية بطريقة أشار إليها النقاد ولا أريد تكرارها كي لا يكون حديثي نوعا من المدح لعمل كتبته. وعودة إلى السؤال في إشارته إلى المشاكسين، ليس من عادتي تأجيل النصوص التي أكتبها، ذلك أنني أشعر في لحظة الانتهاء منها أن معتقة ولا تحتاج لزمن إضافي من أجل مراجعتها أو تعديل فقرات منها، ثم ما الحكمة في تأجيل عمل لعشرين سنة ثم نشره بعدها؟ ولو تمت قراءة الرواية بدقة لتبين بشكل واضح أن أحداثها معاصرة وترتبط بزمن واضح ومكان واضح. المشهد السياسي ما بعد سقوط نظام البعث نراه قد منحكم الفرصة كي تداووا جراحات بقلمكم وبعض من حناجر، فمازلتم يا أخي أمجد تغردون عبر نتاجاتكم وكأنكم خارج سربنا الذي رأى فيكم وريثا شرعيا لمقارعة عملقة السلطة كمثقفين شموليين فمتى تثأروا لنا صرخات؟ ومتى تُسكِتوا لنا عَبرات، فالعراق اليوم جلباب واسع ولكن جسده هزيل! ربما تذكر يا صديقي بأنني كاتب أول رواية بعد الاحتلال، الرواية بعنوان 'الظلال الطويلة' وقد نشرت بين عامي 2004 و2005 مسلسلة عبر صفحة كاملة على صحيفة الزمان، ثم صدرت الرواية عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق، وبعدها تم إصدار طبعة عراقية. هذه الرواية ثم رواية الساخر العظيم، ومجموعة الخطأ الذهبي تناولت كل ما أشرت إليه في سؤالك. ويخيّل إليّ أن وجود هدف أو أهداف تسبق عملية الكتابة أو الإبداع أمر غير واقعي، ذلك أن الإبداع بشكل عام يشبه أسبقية اللغة على قواعدها، ويشبه أسبقية الشعر على بحوره وأوزانه.. إلى ذلك يصبح تحديد الأهداف مرتبطا بخلاصة ما تمنحه تجربة المبدع من خلال أعماله. مع ذلك أستطيع الإشارة إلى أن الإنسان والحياة محور دارت حوله أعمالي كلها، فلا بد من الانتصار للإنسان والبحث عن المعنى العميق لمسيرة حياته، وفي الطريق إلى ذلك فإن إدانة كل ما يجرح هذه المسيرة، ويظلل سماءها بالحروب والتعسف والتمييز والاستغلال، مهمة ليس لأي مبدع حقيقي التخلي عنها. الكتابة في حلف وثيق مع الجمال، مع المتعة العالية التي تحفز المرء على خوض تجربة، إنها رؤية كاشفة، وقدرة على البحث عن الجذر الحي الذي يستمد منه الإنسان الطاقة والرغبة في التمتع برحلته بدل انتظار نهاية مجهولة غير مجربة.

مشاركة :