عندما يكون المجتمع مستقرا ومتوازنا ومتعايشا، ينعكس ذلك بالضرورة على حركة الفكر والرأي والإعلام، وعندما يتعرض المجتمع إلى الاهتزاز الاجتماعي والإنساني -خاصة إبان الأزمات السياسية الكبرى- يتحول كل شيء فيه إلى حالة صراعية غير صحية، لأنها في الغالب تكون صراعات وهمية مزيفة قائمة في الغالب الأعم على الأوهام الطائفية، وهذا ما شهدته البحرين خلال السنوات الخمس الماضية، مما أدى إلى تصاعد الخطاب الطائفي على الصعيد الإعلامي بعد أن تكرس عمليا على صعيد الحراك السياسي وحتى المجتمعي للأسف... وبالرغم من المحاولات العديدة الصادقة لدرء مخاطر الطائفية وللحد من تداعيات خطابها ولغتها ونتائجهما على العلاقات الإنسانية وحتى المهنية، وبالرغم من إعلان جمعية الصحفيين قبل سنوات قليلة عن شعار (صحفيون ضد الطائفية)، وبالرغم من تشكيل بعض النواب لكتل عابرة للطائفية، وبالرغم من كل الدعوات النبيلة الواعية بالمخاطر الجمة، فإن سرطان الخطاب الطائفي انتشر وأسهم في تسميم أجمل ما بقي لدينا وهو العلاقات الإنسانية العابرة للطائفية، وذلك نتيجة لوجود سياسيين ونواب وجمعيات مع الطائفية، لغة وخطابا وملاذا ومآلا.. حيث شهدنا خلال السنوات الماضية ولأسباب محلية وإقليمية ودولية مختلفة تناميا غير مسبوق على الصعيدين السياسي والإعلامي في اللغة الطائفية وفي المنطق الطائفي والتصنيف الطائفي، وانحدارا مدهشا في خطاب الوحدة والتضامن والتسامح، بما قاد إلى تصنيف الأقلام والمقالات والأسماء طائفيا، وأصبح الصحفي الذي يفترض به الاشتغال بقيادة الرأي العام نحو قيم العدالة والتسامح والمساواة والوحدة الوطنية، يشتغل صراحة في الترويج والدفاع عن الطائفية بدل الدين، وعن الطائفة بدل الوطن، وعن المحاصصة بدل الكفاءة وتكافؤ الفرص، بل رأينا وقرأنا وشهدنا غرائب لا تصد، وكتابات مدهشة في انحدار لغتها التي تطل علينا من حين لآخر أو تنشط في المناسبات، أو تجيش المشاعر وتفتعل الحملات، لم تعد مجازاتها وإيحاءاتها خافية عن أحد، لكونها في تقاطع تام مع تاريخ الأوهام الطائفية، الذي تصول فيه الكتابات الطائفية المتكاثرة المتكالبة، وهي كتابات تعي طائفيتها فيدافع عنها أصحابها بعنف وشدة ويبررونها بمختلف الأشكال والألوان، من خلال حملات معلنة ومنسقة، وبعضها يبدو أكثر حياءً، فيتستر بمسميات وعناوين مضللة، تفترق عن الخطاب الطائفي التقليدي والذي يصنف ضمن ما يمكن تسميته فلكلور الشتائم الطائفية المتبادلة، مع ان الوطن لا يحتمل ولا يطيق منافسة الطائفة له. إن هذا الانحطاط في اللغة في مستوى التحرير الصحفي، يرتبط ولا شك بانحطاط الخطاب السياسي عامة، حيث يبدو أن بعض المسؤولين على التحرير وكأنهم لا يقرؤون ما ينشر في صحفهم من مهاترات وترهات وسخافات، تكرس كافة أنواع الطائفية والتحريض والتخوين. إن ترك مسؤولية توجيه الرأي العام للجهلة والحمقى ومجانين الطائفية أمر خطير وغير سليم بالمرة، ولقد رأينا وقرأنا ما يكتبه كل يوم عدد من الحمقى، ممن سيطرت على عقولهم الولاءات الطائفية والحقد الطائفي وعمى الألوان، حتى باتوا يبدون مواقف عدائية من القضايا المبدئية والأخلاقية (مثل المساواة والحرية والعدالة والكرامة وتكافؤ الفرص والديمقراطية والحرية والتسامح والوحدة الوطنية....) لأنها ببساطة تخالف ما درجوا عليه من قناعات طائفية ضيقة الأفق، فليس من العيب أن يتعاطى الإعلامي السياسة، ولكن من المعيب أن يتحول إلى مجرد بوق طائفي. ولذلك مازلت اعتقد أننا في حاجة للوقوف ضد الرداءة والسخافة، وعدم ترك الباب مفتوحا على مصراعيه أمام الفقراء في الموهبة واللغة يتحركون في حالة من الضياع والتيه داخل عالم الكتابة، يتخبطون ويخربطون ويخلطون الأوراق ويشوهون وعي الناس بالترهات والأكاذيب، مستغلين الحرية بشكل كارثي. سؤال الحرية وما دمنا بصدد سؤال الحرية وسؤال الترشيد، وحتى لا يختلط الحابل بالنابل فتصبح الصورة غائمة، علينا أن نتفق، على أمرين أساسيين: - الأمر الأول: ما هي هذه الخطوط الحمراء وما هي حدودها؟ ومن يرسمها، ومن هو صاحب القول الفصل فيها؟ وهل يمكن لأي جهة أو فرد أو زعيم حزب أو جمعية، أو رجل دين أو كاتب صحفي أن يقرر من تلقاء نفسه، ولوحده بأن هذا الموضوع أو ذاك خط أحمر؟؟ أو أن هذا الشخص أو ذاك خط أحمر دونه الموت؟؟، وهل يعقل أن يحدد كل فرد أو جماعة أو جهة أو حزب خطوطه الحمراء الخاصة به ويفرضها على الآخرين، بل على المجتمع كافة؟ وللإجابة عن هكذا أسئلة فمن الطبيعي ومن البديهي بان الخطوط الحمراء يحددها الدستور والقانون والقيم العامة والثابتة في المجتمع، والتي لا يجب أن تكون محل ازدراء أو استخفاف أو تجاوز. - الأمر الثاني: هنالك من يعبر عن خشية حقيقية وواقعية من أن يتم توسع هذه الخطوط الحمراء لتؤثر سلبا على ثوابت الحرية، من ذلك ما نسمع وما نقرأ في الكثير من الأحيان حول خطوط جديدة، حتى كأنها خطوط نار، فرجال الدين خط أحمر... والزعماء السياسيون خط أحمر... ورجال السياسة خط أحمر لتكون هذه الخطوط الحمراء حصونا يتحصن بها أصحاب الحصانات، فنكون في هذه الحالة أمام مشكلة حقيقية، تجعل كل شيء خطا أحمر، بما يتيح لقائمة الخطوط الحمر مساحات مفتوحة تتسع بحسب الحالة والمقام والظرف والشعار.. ولكن ألا نحتاج هنا إلى إعادة التذكير بمفهوم وحدود هذه الخطوط بالرغم من كونها واضحة ومعلومة وموثقة في الدستور والقانون، في ظل الاجتهادات الكثيرة التي تدخل لنا ضمنا أمورا جديدة، تفرض علينا كالتزامات لا أساس لها، من خلال وضع مقدسات جديدة غير واردة في قائمة الثوابت المنصوص عليها دستورا وقانونا وعرفا، مع أن كل ما هو سياسي واجتماعي واقتصادي (زماني) يقع في نطاق النسبي.. ولذلك فمن المهم إعادة التأكيد لمن فاته العلم بذلك أو يقفز فوقه عنوة أن الوطن هو الخط الأحمر الأساسي، ووحدته واستقراره وأمنه ومناعته واستقلاله خط أحمر، ومن المؤسف انه نادرا ما نقرأ ونسمع ذلك صراحة في كثير من البيانات والتصريحات والبيانات التي تعلي من كل شيء، إلا من الثوابت، وهذا خلل جوهري يجب تداركه.
مشاركة :