خاسر رائع يطير الى الهاوية في 'المُحلّقون'

  • 1/25/2023
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

ولدت هذه الرواية "المُحلّقون" الروائي الفرنسي إيتيان كيرن الحائزة على جائزة الغونكور الأولى للرّواية سنة 2022، من مقطع فيديو قام فيه خيّاط نسائي بالقفز من الطابق الأول من برج إيفل، كان يحاول الطيران بمظلة من اختراعه. يذكر كيران أنه أصيب بالممل في ليلة، فأخذ يتنقل من صفحة إلى صفحة على الإنترنت، وقادته الصدفة إلى أحد المواقع؛ أشار ـ الموقع ـ إلى إنه قبل مئة وأربع سنوات قتل فرانز رايكيلت نفسه بالقفز من الطابق الأول من برج إيفل، بينما كان يحاول تجربة مظلة اخترعها للطيران. وقد كان هناك رابط لمقطع فيديو لم أشاهده من قبل، ولم أكن على علم به عندما جمع ملايين المشاهدات على موقع يوتيوب: الرجل يحيي الكاميرا ويظهر لنا زيه وبعد ذلك، بعد تغيير اللقطة، يميل في الفراغ لمدة ثلاثين ثانية تقريبًا وينتهي به الأمر بالقفز ويصطدم بأرض الحديقة محطما. من خلال تكوينه الحياتي، ونظراته المتجددة باستمرار في السينما والتصوير الفوتوغرافي تأثر كيرن بالفيديو بشكل دفعه إلى كتابة هذه الرواية التي ترجمها الكاتب والشاعر التونسي صلاح بن عياد وصدرت عن دار صفحة سبعة للنشر. حدث ذلك في صبيحة الرّابع من فبراير/شباط 1912، حيث دبّت حركةٌ غير معهودة أمام برج إيفيل. تزاحم بعض الحشود من الصّحفيين والشّرطة والفضوليّين للتفرّج على مشهدٍ في غاية السّذاجة: فرانز رايكيلت خيّاط النّساءالنمساوي الذي جاء للعيش في باريس، في الطّابق الأوّل من البرج العملاق يحاولُ الطّيرانَ. لقد قرّرَ تجريب اختراعه الجديد: مظلّة الهبوط. ورغم التّنبيهات، رغم الفشل الأكيد، لم يتراجع فرانز. هل كان طيرانه تعبيرًا عن الحبّ؟ هل كان جنونًا؟ هل كان يأسًا؟ هل كان حُلُمًا؟.. في تلك الصّبيحة، التقطت الكاميرًا ولأوّل مرّة في التّاريخ، مشهدَ موتٍ مباشرةً. يقول كيرن "هذا الفيديو - الذي نشرته جريدة Pathé-Journal، التي كانت تبث أفلاما معلوماتية قصيرة في دور السينما - أثار إعجابي وأذهلني على الفور. لا أستطيع أن أقول كم من الوقت قضيت في مشاهدته مرارًا وتكرارًا، بينما أفكر أكثر فأكثر، ولا سيما في كل ما جذبني فيه. لا شك أن هذا الجذب قد تغذى جزئيًا من المعلومات الوثائقية أو التراثية لهذا الفيلم القديم "يُظهر برج إيفل في عصر بعيد، وكاميرا تلتقط موت رجل حي، فهو يضع على خشبة المسرح رجلًا يمكن أن يذكرنا بـ "قصة "إيكاروس"، وما إلى ذلك.. ويضيف "لا يحتوي نصي على مشروع التعليمي ولا اهتمام بالواقعية، ولا هو مجرد رواية التاريخية؛ لقد رفضت بسرعة كتابة رواية تاريخية من شأنها أن تعيد بناء حياة فرانز ريتشيلت والعالم الذي يعيش فيه بشق الأنفس، علاوة على ذلك، فإن العنوان ذاته، مع هذا الجمع "المحلقون" يزيل مركز الحلقة الواقعية التي استوحى منها. لقد قمت بالطبع بإجراء تحقيق تاريخي حول فرانز بشكل رئيسي من الصحافة في ذلك الوقت، وذلك لتسليط الضوء على الغامض أو المنسي. ويبدو لي أنه إذا كانت الكتابة تجعل من الممكن انتزاع شيء ما، أو بالأحرى شخص ما، من النسيان والموت، فهي بنفس طريقة اللغة اليومية، عندما نتحدث فيما بيننا عن رحيلنا - بالتأكيد، الكتابة تفعل ذلك. لا أؤمن بالفرق في الطبيعة بين اللغة الأدبية والكلمات اليومية، والتي تأخذ أيضًا الذاكرة. إن هناك وهم يرى أنه من الضروري والمثمر التفكير في القدرة، من خلال الكتابة، على إنقاذ ما لم يعد موجودًا حقًا. ربما تكون الكتابة هي التخلي عن هذا الوهم، وفي نفس الوقت محاولة التخلص منه". ويلفت كيرن إلى إن ما أثار اهتمامه في هذه الصفحة الصغيرة من هذا تاريخ الطيران العظيم، هي أنها تستدعي شخصية مذهلة: رجل مهزوم، مخترع مؤسف، يحاول الطيران بمظلة أخبره الجميع محذرا أنها لا تستطيع العمل، ولكنه يعطي ابتسامة كبيرة للكاميرا قبل الذهاب للقفز. باختصار، خاسر رائع، يشبه إلى حد ما زمانه، يركض إلى خسارته دون أن يكون على علم أنه بعد عامين فقط سوف تقوم الحرب العالمية الأولى. يكشف كيرن إن الشخصيات التي يصورها تنتمي إلى خلفية متواضعة تعرف فيها على جذوره، "كانت جدتي، أرملة عامل زراعي - الرجل الذي سقط من الشرفة - تتحدث معي كثيرًا عن جدها، وهو خياط، لم يتقاعد إلا عندما تعثرت عيناه عن العمل، في سن 87؛ لا شك أن شخصية فرانز تدين بشيء لهذا الصفحة من ذاكرة العائلة، وربما يكون هذا، عند مزيد من التأمل، هو ما دفعني إلى تعتيم الصورة قليلاً فيما يتعلق بالجوانب المادية لحياته: وفقًا للدراسة المكرسة له بقلم ديفيد داريولات (بدلة نسائية في ايام الطائرات)، لم يكن حياة فرانز سيئة للغاية من الناحية المالية. على أي حال، لم يكن المال من الضرورات التي دفعته إلى المقامرة بحياته من أجل تصور اختراعه. يبدو وكأنه ضحية لحلمه - أو ضحية للسينما والكاميرا، لأنه كان من الممكن أن يتخلى عن القفز إذا لم تكن هناك كاميرا (كما اقترح روبرت بوب وقبله فرانسوا تروفو) - مثل نظام اقتصادي. مقتطف من الرواية الرّابع من فبراير 1912، في الصّباح الباكر، اجتمع ما يناهز الثّلاثين شخصًا هناك، قبالة برج إيفل. رجالُ شرطةٍ، صحفيّون، وعددٌ من المتطفّلين. كانوا جميعًا يرشُقُون أعينَهم في الأعلى حيثُ منصّة الطّابق الأوّل. من هناك، ثمّة رجلٌ ينظر إليهم وهو يرتكز برجليْهِ على الدّرابزين. إنّه مُخْترعٌ. هو رجلٌ في الثّالثة والثّلاثين من عمره. ليْسَ مهندسًا ولا عالمًا. لا يمتلك أيّا من المؤهّلات العلميّة، لا أكثر من بعض الاهتمام الطّفيف بالعلم. هو خيّاطٌ لملابس نسائيّة. اسمه فرانز رايكلت. * هو رجلٌ قادم من منطقة "بوهيميا"، مملكة قديمة بصدد الاضمحلال على حافّة امبراطوريّة عجوزٍ. كانت هناك قريةٌ واقعةٌ على تُخوم "براغ"، اسمُ تلك القرية كان "فاغ شتاتل" هناك ولد في منزلٍ صغيرٍ رماديٍّ مجانبٍ للنّهر. حول ذلك المنزل تمتدّ حقولٌ من الجنجل. أبعدَ بقليلٍ من تلك الحقول، تمتدّ الأشجار سَامقةً من كلّ صوبٍ، أشجارٌ تتخلّلها ممرّاتٌ ضائعةٌ. رفض أن يصبح إسكافيًّا مثل أبيه. كان ثمّة نسّاجٌ في المدينة المجاورة اتّخذ منه صبيًّا متدرّبًا. عندما بلغ العمر الّذي ينبغي فيه اختيار شيء مّا، سافر إلى فيينّا حيثُ أصبح يعمل في محلٍّ لأحد الخيّاطين. كان صاحبَ ضميرٍ حيٍّ وذا يديْن بارعتيْن: في غضون سنوات قليلة أي سنة 1900، سافر إلى باريس لخوْض مُعترك الحياة الحقيقيّ، خصوصًا أنّ باريس كانت عاصمةً للموضة في ذلك الزّمن. عاش بداياتٍ قاسيةً. لم يكن يُحسن أيّ كلمةٍ فرنسيّة. كان غريبًا بحقّ. بل أفظع من ذلك، كان يُعتبر ألمانيًّا. في ذلك الوقت، ما يزال الجميع يتعاملون بحذرٍ مع الألمان الّذين ما يزالون مُنتَشِين بانتصارهم منذ 1870. لكنّه انتهى بأنْ عثر على عملٍ أوّلٍ ثمّ ثانٍ قبل أن يبعث مشروعَهُ الخاصَّ على مقربةٍ من الأوبرا، في البناية عدد 8 من شارع "غايّون". غرفةٌ من أجل معيشتِهِ وصالونٌ لاستقبال الزّبائن وفضاء أكبر بقليل اتّخذ منه ورشةَ عملٍ: تلك كانت مملكتَهُ وحدَهُ حيثُ يشعر بالرّاحةِ المطلقةِ. كان يعيش وحيدًا. * له عينان صافيتان رماديّتان تقريبًا. هما عينا حالمٍ. شارباه عريضان يرتفعان في فضولٍ كلّما ابتسم. له صوتٌ عميقٌ ذو نبراتٍ تنمّ عن الصّلابة. مع ذلك، هو صوتٌ قادرٌ على إبداء رقّةٍ كبيرةٍ. اكتسب منذ سنواته الأولى الّتي عاشها في فرنسا عادةَ التّحدّث ببطء. كان عندما يتلعثم في نطق كلمةٍ يعمد إلى إخفاء تحرّجه خلف ابتسامةٍ. لطالما سكن خوفٌ دفينٌ أعماقَهُ، خوفٌ من أن يُدَانَ أو يُحتقر. لذلك، كان دائمَ التّحدُّث بصوتٍ خافتٍ. كان قليلًا ما يقرأ. كلّ مساءٍ، تكون عيناه مُتعبتيْنِ من فرط تتبّعِ الخيوط والإبر على مدى ساعات النّهار. إلّا أنّه كان من حينٍ إلى آخر يفتح كتابًا نسيَتْهُ ذات يوم زبونةٌ من زبوناته. كان في كلّ مرّةٍ يفتح ذلك الكتابَ بتحمُّسٍ يثير دهشته هو نفسه. لم تعد تلك المرأة لأخذ المعطف الّذي طلبتْ خياطته. سأل عنها الجيران والتّجّار: لا أحد منهم رآها مُجدّدًا. لابدّ أنّها تُوفّيت دون شكٍّ. ظلّ الكتابُ في ورشته. هو كتابٌ يحتوي على قصائدَ كلاسيكيّةٍ من تلك الّتي يُوصَى بحفظها في المدارس. لم يكن فرانز يفهم تلك القصائدَ كلَّهَا إلاّ أنّ أثَرَهَا عليه كان سحريًّا. كان سحرًا فعل فعلته فيه دون وعيٍ كبيرٍ منه. حتّى أنّها زيّنتْ خطابَهُ اليوميَّ وتسلّلت إلى لغته عبر صيغٍ قديمةٍ وصُورٍ مُربكةٍ أحيانًا. كان يتحدّث لأولئك الّذين يصغون إليه في المرّات النّادرة عن الغُيُوم والدّموع وكان يستحضرُ عوالمَ بعيدةً ويخوضُ في أشياء الأرض والسّماء الّتي لا يعرفها سوى الأطفال المجانين. فيما عدا ذلك، كان يقضي مُعظَمَ وقته صامتًا. * كلّ صباحٍ، في حدود السّاعة السّابعة، يفتح فرانز الباب أمام لويز ليستقبلها باسمًا. كانتْ تحيّيه بهزّةٍ طفيفةٍ من رأسها ثمّ تتوجّه إلى داخل الورشة مباشرةً وتجلس أمام آلة الخياطة الّتي تعمل عليها. هي امرأةٌ نحيلةٌ، ذاتُ حركاتٍ محدّدةٍ. امرأةٌ قادمةٌ من برلين. لذلك كانا يتخاطبان فيما بينهما بالألمانيّة. قبل أن يوظّف تلك المرأةَ في ورشته بسنواتٍ قليلةٍ، كانتْ أختُهُ الصّغرى كاتارينا تعيش معه بعد أن غادرتْ قريتهما حالمةً بتأسيس مستقبل مّا في باريس. ذات يومٍ، تركتْ أختُهُ البابَ مفتوحًا. شَعر فجأةَ أنّ أحدًا يُراقبُهُ من بعيدٍ: كانتْ، في العتبة المقابلة، تقف فتاةٌ صغيرةٌ ذات سنتيْن أو ثلاث من العمر. كانت تضع رجلًا داخل الورشة وأخرى خارجها. وكانت تدسّ يديْها خلف ظهرها موجّهةً نظراتٍ حولها في خجلٍ وارتياحٍ. بدتْ له كالواقعة تحت أسر المكان الّذي بدا لها عجيبًا، ففيه تتكدّسُ عدّةُ صناديق مخصّصةٌ للتّعبئة وبكراتُ خيوطٍ وأكوامٌ مكوّمةٌ من القماش المُتاحة لأصابعها الصّغيرة. لمّا خطا بضع خطوات تجاهها سارعتْ بالتّخفّي تحت إحدى الطّاولات. حاول التّحدّث إليها إلّا أنّ امرأةً لاهثةً اقتحمتْ الورشة. جاءتْ راكضةً مِنْ محلّ أحد المزوّدين في الطّابق الأرضيّ. أفلتتْ ابنتُهَا من يدها. بحثتْ عنها في كلّ مكانٍ. عبّرت المرأة عن أسفها الشّديد. قدّم لها فرانز كُرسيًّا ودعاها للجلوس. عند انتهاء اليوم، عادتْ كاتارينا إلى المنزل. حدّثها عن نيّته في تأجير عاملةٍ في المستقبل القريب. عاملة تعتني بالشّقّة وتساعده في الورشة. كانت تُدعى لويز شِيلْمَان. لم يُعد مشغِّلُها القديم قادرًا على تحمّل أجرِهَا، هي المسؤولةُ الوحيدةُ على حياة ابنتها، أليس. - هل تعرف أنّ الصّغيرة قد تتركك وترحل بعيدًا ما إن تصاب بأوّل زكامٍ؟ أجاب بأنّ ذلك يبقى قرارًا صعبًا يقتضي تفكيرًا عميقًا. من الغد قال لكاترينا بأنّه سيساعدها على إيجاد غرفةٍ في مكانٍ مّا.

مشاركة :