"في هذه الرواية يقوم الكاتب بالمزج بين الوقائع التاريخية وقصة خيالية أخرى مليئة بالفنتازيا، مقدما لمحة غرائبية عن بلده الأصلي كولومبيا". كان هذا التقييم الأولي من مقال مطول عن الرواية منشور بصحيفة 'لوموند' الفرنسية بعد قرابة سنة من صدورها وأجده الأكثر إنصافا وإيغالا في تفاصيلها وترجمتها العربية كانت سنة 2013 لافتة للمترجم السوري خالد الجبيلي عن منشورات الجمل. والعمل ككل أتى وفيا لمن سبقه من رواد الواقعية السحرية بأميركا اللاتينية في مقدمتهم غابريال غارسيا ماركيز، إيزابيل اللندي، لويس خورخي بورخيس، ماريو فارغاس يوسا، كارلوس فوينتس وآخرون. دون أن نغفل جماهيرية تيار الواقعية السحرية التي مازلت تحظى بشريحة واسعة من القراء في العالم وهو ما جعل هذا النص المتفرد يترجم إلى العديد من اللغات ويتوج بجائزة أفضل رواية أجنبية سنة 2008. والترجمة العربية أنجزها السوري خالد الجبيلي سنة 2013 عن منشورات الجمل وهو المترجم الذي لا يمكن أن نغفل بصمته وعنايته الفائقة في نقل النص إلى اللغة العربية. يوحي العنوان الطويل والمشطور مناصفة بين النساء والرجال معا ويلاحظ من فصوله التداولية بين الجنسين أن الفصول النسوية كانت الأكثر ثراء وإحاطة بالتفاصيل كون الحيوات التي تحييها النساء أكثر شساعة وامتلاء من تلك التي يحييها الرجال على الرغم من أنها كانت من الخنادق وثغور النزاعات المسلحة التي دارت رحاها بين المعارضة والقوات الحكومية طيلة عقود بكولومبيا. يستحوذ صوت واحد موجها مسارات الرواية وهو صوت الراوي الرائي يغوص في أعماق الشخصيات يخلط الأحداث ويضع نقطة النهاية والقارئ في حيرة وذهول مترقبا نهاية هذا المزج الغرائبي والواقعي السحري. "إن قرية طفولتي بعد الحرب كانت قرية نسائية النساء وحدهن ولا أذكر أصوات الرجال وهذا ما بقي عندي،هن من يتحدثن عن الحرب هن النساء يبكين يغنين وكأنهن يبكين" سيفتلانا الكسفيتش قد يكون سياق عبارة سيفتلانا الكسفيتش مختلفا عن حكايات نساء ماريكيتا إلا أن هناك نقطة تلاقي بين النصين اللذين يعدان علامة فارقة في تسليط الضوء على وضع النساء أثناء الحرب وكيف يزج بهن في أتون الموت والخراب بحمل السلاح كما في ليس للحرب وجه أنثوي أو جعلها تموت ببطء تحت وطأة الانتظار واليأس والخراب الذي يحيط بها من كل حدب وصوب كما في حكايات من ضيعة الأرامل. هي صورة مشابهة بتفاصيل مختلفة والتي انطبعت في مخيلتي أثناء عشرية الدم حين لم يكن الليل يعرف من النهار لتسارع لحظات الترقب والانتظار أي روح ستنجو اليوم وكم سيتبقى عدد الرجال في الحي أو القرية الفلانية. ما أشبه حيواتنا نحن البشر باتساع هذه الجغرافيا وطول المسافات فما كان يحدث في التسعينيات عندنا كان يحدث مثله في بلد يسمى كولومبيا بدافع الأيديولوجيا والمال ونساء ماريكيتا القرية الجبلية والبعيدة عن عدسات الكاميرات وأعين المسؤولين. كن ضحايا الاختفاء القسري لرجالهن وأبنائهن بتاريخ 15 نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1991 بعد مجازر مروعة أقدم عليها المتمردون في حق كل من يرفض الالتحاق بهم أو يحاول مواجهتهم . تاركين جموع الأرامل والفتيات والأطفال فريسة للجوع والجهل مع رجل واحد فقط وهو رجل الدين الخوري رافاييل وفتى صغير ابن السيدة موراليس الذي اضطرت لأن تلبسه زي فتاة لتنقذه من اختطاف المتمردين: ".... ورأت الأرملة النساء ينتحبن عندما بدأ رجالهن يمرون من أمامهن مطرقين برؤوسهم. رأت سيسيليا غورويا وهي تعطي زوجها العجوز نظارته ورأت جوستينا وهي تعطي زوجها طقم أسنانه. ورأت اوبالدينا ريستيريبو وهي تعطي ابن زوجها الأصغر مسبحتها وأخريات يعطين أزواجهن صورا عائلية وطعاما ملفوفا في أوراق الموز......." الصفحة 25/26 "الأنوثة هي الماء، هي الأرض وهي الأثير. هي الوسيلة الإلهية للإبقاء على تماسك الوجود، تناقضه الظاهري ولحمته الباطنية". بثينة العيسي. الإمعان في مقولة بثينة العيسي يحيلنا إلى الجانب الخلاق للأنوثة وأنها المظهر الحيوي والخصب للوجود وسيرورة الحياة وهي ذات الفكرة التي تجلت في فكر أهل العرفان من المتصوفة وأبرزهم الشيخ الأكبر محي الدين العربي في رسالة ما 'لا يعول عليه' وشذرة "كل مكان لا يؤنث لا يعول عليه". والأوقات الصعبة في الأغلب تلدُ نساء جديدات يوارين تأزماتهن وأوقاتهن التعيسة إلى غير رجعة ينشدن التغيير ويصنعنه بكل القوة التي يمتلكنها فيضبطن عقارب الساعة على توقيت الخصوبة وتدفق الحياة وعبق الطبيعة وسحر الطعام وتلك التفاصيل الأنثوية التي تجعل الحياة أكثر إشراقا وبهجة. فلنا أن نتخيل حين تنهض امرأة جموحة كروزلبا من ركامها في الوقت الذي كانت تتأمل مشاهد الخراب التي طغت على القرية وانتشار الجوع ونحيب الأرامل، تغوص في محاورة عميقة مع صديقتها الشجرة لتفاجئ بمرور أفراد من الجيش النظامي لكن تلك اللحظات كانت تميرنا على الجسارة وقوة الخطابة التي تمكنها من إيصال تقريرا مفصلا للوفد عن الوضع المأساوي لقريتها مما جعلهم يقلدونها منصب قاضية القرية بالرغم من صراخها وبكائها في اللحظة التي تعامل فيها أفراد الجيش مع وضع القرية ببرودهم ولامبالاتهم. هم ممثلو الحكومة في العاصمة الذين نسوا وتجاهلوا تماما قرية ماركيتا وأسقطوها من سلم أولوياتهم بمجرد أن غادروها وهو الأمر الذي دفع القاضية بأن لا تتراجع وتعمل دون كلل أو ملل لتعيد قريتها إلى الحياة بمعية نسائها بتشييد مجتمع أنثوي له قوانينه وخصوصيته. "كان أكبر تحد يواجهها إقناع النساء لأن ينسين مسألة المعجزات ويضعن إيمانهن بالزعيمة الوحيدة المصنوعة من لحم ودم التي تعيش في ماريكتا كانت تعرف أن عليها تبذل جهدا لإقناعهن بأنها هي... من سيعيد لهن الكهرباء والمياه الجارية في النهاية. إنها هي القاضية التي ستعيد فتح المدرسة وهي التي ستشتري البذور والسماد لتزويد القرويات بالطعام". الصفحة 49 إنها ليست رواية مُنهكة ومؤرقةً فحسب، بل صادمة بالخوض في انحرافات المجتمع الأحادي الجنس وهو ضيعة الأرامل واللواتي دفعهن الغياب القسري لرجالهن لأن يجسدن رؤيتهن الطوباوية بتأسيس مجتمع أنثوي يخلو من كل مظاهر الجنس الذكوري وما يمد إليه بصلة لا ربما كنوع من الانتقام من رجالهن وأولادهن ومن السلطة التي تجاهلت أصواتهن ومن رجل الدين الذي استغلهن وقتل آخر بصيص أمل من الذكور للقرية أو استجابة لنداء خفي بدواخلهن بأن مآلهن تماما كأرض بور قاحلة. تتعدد الأسباب لتؤول لمسلمة الطبيعة التي تقول كلمتها وتفرض قانونها الأزلي بأن لا استمرارية ولا كينونة للحياة إلا بالضد رجل/امرأة والجنس البشري لم يكن ليوجد ويتكاثر على الأرض لو لا لقاء آدم وحواء وهي الجزئية التي أنهى بها الكاتب فصول روايته والذي لم يكن صوت النساء فقط رغم طغيان الأنوثة بكل مظاهرها والطبيعة بحسنها وتوقدها. إلا أنه في النهاية لم يحد عن رسالة الأدب وبان النص في النهاية ما هو إلا صوت الإنسان بعذباته ومآسيه وكونه مجرد وسيلة لأذرع الأيدولوجيا وأباطرة المال أو كما ورد في مقال صحيفة 'لوموند'. لكن الكاتب أراد أن يوصل رسالة ما عن بلاده حكاية مختلفة عن لوحات ماركيتا حكايات الفلاحين المقهورين المهجرين الذين خسروا محاصيلهم والأطفال الذين زج بهم بحمل السلاح المجندون الصغار.
مشاركة :