سرارو (العراق) - يجر التدخل العسكري التركي في شمال العراق المنطقة إلى نزاع أوسع نطاق، حيث منح هذا التدخل إيران جرأة اكبر على شن هجمات على مواقع لتنظيمات كردية إيرانية مسلحة، بينما يبدو أن أنقرة تغرق أكثر في صراع لا تبدو له نهاية كما يبدو أم أربيل وبغداد لا تمتلكان القدرة على كبح التزاحم التركي الإيراني على جزء من ساحتيهما. ويرى محللون أن الحملة العسكرية التركية في شمال العراق تهدد بإطلاق شرارة صراع أكثر احتداما، فالتصعيد التركي ما زال يشكل خطرا بإضافة المزيد من عوامل زعزعة الاستقرار إلى منطقة تتدخل فيها قوى أجنبية بحصانة من المحاسبة. ولم يثر تقدم وتوغل تركيا عبر الحدود مع كردستان العراق، في منطقة تخلو من السكان بشكل متزايد، اهتماما عالميا يذكر مقارنة مع عمليات التوغل التي نفذتها في سوريا أو المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية. لكن مسؤولين أكراد يقولون إن تركيا قد تصبح متورطة أكثر في الأمر إذا تعرضت قواعدها الجديدة في العراق لهجمات متواصلة كما يمكن أن يمنح تنامي وجودها إيران الجرأة على توسيع عمليات عسكرية في العراق ضد مجموعات كردية إيرانية مسلحة تتهمها بتأجيج الاضطرابات في الداخل لديها. وإلى جانب التداعيات الإنسانية، يرى مسؤولون أكراد أن التوغل التركي يهدد بتوسيع الصراع إذ أنه يمنح تفويضا مطلقا للخصم الإقليمي إيران لتعزيز العمليات الاستخباراتية داخل العراق والقيام هي الأخرى بعمل عسكري. وقصفت طهران بالفعل بالصواريخ قواعد لجماعات كردية تتهمها بالتورط في الاحتجاجات المناهضة للقيود التي تفرضها على النساء، مما أدى إلى نزوح مئات الأكراد الإيرانيين وسقوط بعض القتلى. ويقول محللون إن الفصائل الموالية لإيران في العراق لديها مبرر للرد على الوجود التركي، مما يزيد من احتمالات التصعيد بين القوات التركية وجماعات غير حزب العمال الكردستاني. ويوضح حمدي مالك المتخصص في شؤون الجماعات الشيعية العراقية المسلحة في معهد واشنطن أن الجماعات الموالية لإيران مثل لواء أحرار العراق وأحرار سنجار أعادوا إعلان هدفهم العام الماضي ليكون مقاومة الوجود التركي. ووفقا لتقرير صادر عن معهد واشنطن، فقد زادت الهجمات على منشآت عسكرية تركية في العراق من 1.5 ضربة شهريا في المتوسط في بداية عام 2022 إلى سبع ضربات في أبريل نيسان. وقال مصطفى جوربوز الزميل غير المقيم في المركز العربي بواشنطن إنه إذا كثفت تلك الجماعات، وهي شديدة العداء لواشنطن، عملياتها فإن هذا من شأنه أن يقوض نفوذ الولايات المتحدة وقواتها البالغ قوامها 2000 جندي في العراق. وأشار جبار منده الأمين العام السابق لقوات البشمركة في كردستان إلى أن أنقرة كان لها 29 موقعا عسكريا في العراق حتى 2019 لكن العدد تضخم مع محاولتها منع عناصر حزب العمال الكردستاني المحظور لديها من شن هجمات على أرضها. وقال "عام بعد عام.. ازدادت هذه المعسكرات والثكنات العسكرية التركية بعد ازدياد المعارك ما بين الجيش التركي ومسلحي حزب العمال الكردستاني". وقدر عددها الحالي بنحو 87 موقعا أغلبها على الشريط الحدودي وطوله نحو 150 كيلومترا وعرضه حوالي 30 كيلومترا. وتابع منده وهو حاليا محلل أمني في السليمانية "هذه الثكنات والمعسكرات يوجد بها مدرعات ودبابات ومدافع متوسطة وثقيلة... دائما تقوم بإمداد هذه المعسكرات عن طريق الهليكوبتر يوميا". وقال مسؤول كردي طلب عدم ذكر اسمه إن تركيا لديها الآن نحو 80 موقعا في العراق، فيما ذكر آخر أن 50 على الأقل بنيت في العامين الماضيين وإن الوجود التركي أصبح أكثر استدامة. وقالت وزارة الدفاع التركية لدى طلب التعليق بشأن قواعدها في العراق، إن عملياتها هناك تتسق مع البند 51 من ميثاق الأمم المتحدة الذي يعطي الدول الأعضاء في المنظمة الدولية الحق في الدفاع عن النفس في حال التعرض لهجمات. وأوضحت في بيان "حربنا ضد الإرهاب في شمال العراق تتم بالتنسيق وبتعاون وثيق مع السلطات العراقية". ولم تتطرق لمسألة عدد المواقع التي ذكرها مسؤولون أكراد، بينما نددت الحكومة الاتحادية العراقية مرارا بالانتهاكات التركية، ما يشير إلى أن أنقرة تتصرف دون تنسيق مع بغداد كما تزعم. ويعود الوجود التركي في شمال العراق وهي منطقة تقع منذ فترة طويلة خارج نطاق السيطرة المباشرة لحكومة بغداد، إلى تسعينات القرن الماضي عندما سمح صدام حسين لقوات تركية بالتوغل لمسافة خمسة كيلومترات في البلاد لمحاربة حزب العمال الكردستاني. ومنذ ذلك الحين، رسخت تركيا وجودا كبيرا وواسع النطاق بما شمل تأسيس قاعدة في بعشيقة التي تقع على عمق 80 كيلومترا في داخل العراق حيث تقول إن القوات التركية جزء من مهمة دولية لتدريب القوات العراقية وتزويدها بالعتاد من أجل محاربة تنظيم الدولة الإسلامية. وتقول تركيا إنها تعمل على تجنب سقوط قتلى ومصابين من المدنيين عبر التنسيق مع السلطات العراقية. وذكر تقرير نشره في أغسطس/اب تحالف من المنظمات غير الحكومية يسمى "انهوا القصف عبر الحدود" إن 98 مدنيا على الأقل قتلوا بين عامي 2015 و2021. وقالت مجموعة الأزمات الدولية التي قدرت حصيلة مماثلة للقتلى من المدنيين، إن 1180 من مسلحي حزب العمال الكردستاني قتلوا بين عامي 2015 و2023. ووفقا لمسؤول في حكومة كردستان العراق، تسبب الصراع أيضا في هجر السكان لما لا يقل عن 800 قرية منذ 2015 وهو العام الذي شهد انهيار وقف لإطلاق النار بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، مما دفع الآلاف للفرار من منازلهم. وعلى مشارف قرية سرارو المهجورة في شمال العراق تعترض ثلاثة مواقع عسكرية تركية خط الأفق في إطار توغل أجبر السكان على الفرار العام الماضي بعد قصف استمر لأيام. والمواقع العسكرية هي جزء فحسب من عشرات القواعد العسكرية الجديدة التي أقامتها تركيا على أرض العراق خلال العامين الماضيين مع تكثيفها هجوما مستمرا منذ عقود على مسلحين أكراد يحتمون في المنطقة الجبلية النائية هناك. وقال رئيس بلدية القرية عبدالرحمن حسين رشيد في ديسمبر الماضي خلال زيارة للقرية التي لا تزال فوارغ القذائف والشظايا متناثرة على أرضها "عندما جاءت تركيا للمنطقة للمرة الأولى، أقامت خياما صغيرة محمولة لكن في الربيع أسست مواقع بالطوب والإسمنت". وأضاف لرويترز أن أزيز المسيرات يستمر فوق الرؤوس في المنطقة الجبلية التي تبعد نحو خمسة كيلومترات عن الحدود، موضحا "لديهم طائرات مسيرة وكاميرات تعمل طوال الوقت. يعلمون كل ما يجري". وأوضح سجاد جياد المحلل المقيم في بغداد من مؤسسة القرن الفكرية الأمريكية "تستخف تركيا بقوة المعارضة وحقيقة أن هذه المنشآت ستصبح أهدافا في المستقبل، وأكثر مع تزايد الأعمال العدائية". ويعني التفتت السياسي في شمال العراق أنه لا الحكومة الاتحادية في بغداد ولا حكومة إقليم كردستان تتمتع بما يكفي من القوة لمواجهة الوجود التركي أو الاضطلاع بنفسها بتحقيق هدف أنقرة المتمثل في احتواء حزب العمال الكردستاني. وتشكو حكومة بغداد من توغلات أنقرة لكنها لا تتمتع بسلطة تذكر في الشمال الذي تقطنه أغلبية كردية، فيما لا يمتلك الحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم القوة العسكرية لتحدي حزب العمال الكردستاني رغم رؤيته كمنافس قوي وشعبوي. وتاريخيا تعاون الحزب الديمقراطي الكردستاني مع تركيا لكن تأثيره محدود على جار يتمتع بنفوذ عسكري واقتصادي أكبر بكثير. وقال جوتيار عادل المتحدث باسم حكومة إقليم كردستان "نطالب كل الحركات العسكرية الأجنبية بما في ذلك حزب العمال الكردستاني بعدم جر إقليم كردستان لأي نوع من الصراعات أو التوترات". وأضاف "حزب العمال الكردستاني هو السبب الرئيسي الذي دفع تركيا لدخول أراضينا في كردستان لذلك نعتقد أن على الحزب أن يرحل... لسنا طرفا في هذا الصراع طويل الأمد وليس لدينا أي نية لأن نكون إلى جانب أي طرف". وقال رئيس وزراء إقليم كردستان مسرور بارزاني لرويترز إن الصراع بين تركيا وحزب العمال الكردستاني مبعث قلق، لكنه أقل إلحاحا من تهديد تنظيم الدولة الإسلامية. ويؤكد هريم محمود القيادي البارز في حركة تحرير كردستان، وهي جماعة معارضة مدنية في العراق متأثرة بأفكار زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون عبدالله أوجلان، أنه بغض النظر عن مدى ضغط تركيا عليهم فإنهم سيستمرون في المقاومة. وقال محمود الذي يعيش في كرميان إلى الجنوب من السليمانية "في رأينا، هذا احتلال والنضال حق مشروع لنا"، إلا أن المدنيين يواصلون دفع الثمن. وكان رمضان علي (72 عاما) يسقي أرضه في هورور على بعد بضعة كيلومترات من سرارو في عام 2021، عندما سمع دوي انفجار ضخم. والشيء التالي الذي يتذكره هو أنه كان ملقى على الأرض وملطخا بالدماء. وأوضح أن قذيفة تركية سقطت على أرضه، وهو أمر يحدث بشكل متكرر عندما ترد القوات التركية على هجمات حزب العمال الكردستاني بالمدفعية. وقال علي من قضاء زاخو والذي لا يزال يعاني من جروح جراء إصابته بشظايا "رأيت شريط حياتي يمر من أمام عيني... أشعر بالغضب إزاء كل من حزب العمال الكردستاني وتركيا فكلاهما يظلماننا".
مشاركة :