هيبة الدولة من هيبة الثورة

  • 1/28/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

تمنيت لو امتدت زيارة الرئيس الصيني لمصر مدة أطول. تمنيتها زيارة طويلة تتاح خلالها الفرصة لصحف وقنوات التلفزيون المصرية لتحكي للمصريين حكايات عن الصين. تحكي لهم عن إمبراطورية الصين التاريخية وعن حكمة فلاسفتها القدامى وتراث حكم وإدارة يندر وجود مثلها في تاريخ الأمم. تمنيت أن يحكي علماؤنا الاجتماعيون السياسيون وصحافتنا عن حال الصين المتردية في القرن التاسع عشر، وكيف تعرض الشعب الصيني للمهانة والذل على أيدى الأوروبيين، وكيف انهارت هيبة الدولة وانفرط عقدها، كيف جاع الشعب حتى باع الأزواج زوجاتهم وباعت الأمهات أولادها، وكيف أهان الإنجليز كرامة الإنسان الصيني وساووه بالكلاب لا يدخل أحياءهم ونواديهم، وكيف تدخلت اليابان، وهي الجارة الآسيوية الشريكة في الثقافة وأصول الكتابة، لتحصل على نصيبها من الكعكة الصينية. تمنيت لو أن صانعي السياسة ومتعهدي الثقافة والتنمية ودعاة التنوير وقادة الفكر في مصر اهتموا بكل هذه الأمور الصينية قبل وأثناء زيارة رئيسها لتأكيد حقيقة تاريخية وسياسية أساسية موجزها كلمات قليلة، لا نهضة ولا تنوير ولا تنمية ولا هيبة دولية بل وربما لا دولة لها قيمتها من دون أن يمر الشعب في ثورة، ومن ندون أن تلتزم الأجيال المتلاحقة من هذا الشعب بمهمة حماية أهداف هذه الثورة، ومن دون أن تبقى الثورة ومبادئها وأهدافها وحواديتها ومآسيها وفوضاها وضحاياها ذكرى حية لا تنسى، تدرس في المدارس ويتخصص فيها علماء، ويحتفي باسمها السياسيون كسباً للشرعية وتأكيداً للولاء للشعب. ثم إنه عندما تصبح الدولة، بفضل ثورتها وبفضل تمسك النخب والشعب بها، دولة قوية وربما دولة عظمى، لا تبخل الطبقة السياسية على هذه الثورة بإشارات تؤكد احترامها لها وتعترف بفضلها عليها وتذكر بدورها في استعادة هيبة الدولة ونقلها، شعباً ومؤسسات، إلى مستويات أعلى في سلم الشعوب والدول. هذا بالضبط ما استمر يفعله حكام الصين وكافة قياداتها على امتداد عقود. رحل ماوتسي تونغ مفجر الثورة وقائدها، ورحل خلفاؤه ولم أسمع يوماً أن واحداً منهم لم يذكر في خطاب له فضائل الثورة الصينية على الشعب وعلى الدولة. التزم الجميع بالاعتناق الشامل لفكرة أنه لولا الثورة الصينية ما قامت في الصين دولة حديثة، وما وصلت هذه الدولة إلى مصاف الدول المتقدمة. بدأت بتجربة الصين مع ثورتها في مسيرة بناء الدولة واستقلالها ونهوضها واستقرارها، ولكنها ليست التجربة الفريدة، أو حتى البارزة بين تجارب الأمم التي نجحت. يذكر مؤرخون ودارسون للمراحل الأولى من تاريخ الإسلام، كيف أن الدعوة المحمدية حالت دون تقسيم الجزيرة العربية بين إمبراطوريتي فارس وبيزنطة. توصلوا أنه لولا هذه الثورة التي انطلقت من مكة، لربما انفرطت القبائل وتجنست بالتبعية والخضوع لإحدى الإمبراطوريتين الزاحفتين لاحتلال الجزيرة العربية. الأمر الذي لو تحقق لربما تجاهل التاريخ من بعد ذلك وجود عرب، ولما قامت في الشرق أمة عربية. نجحت الدعوة المحمدية وانتشرت وحصلت على الهيبة المناسبة لأن الناس لم ينسوها ولم يتجاهلها أهل الفكر والحكم من قادة العرب. لا تمر مناسبة إلا ويشيدون بأمجاد هذه الدعوة وأفضالها على الأمة. في الولايات المتحدة يلقنون الأطفال في مدارسهم وبيوتهم فضل الثورة الأمريكية، ولا يغفل حاكم في أمريكا في ولاية أو في البيت الأبيض عن التذكير بهذه الثورة. من دونها ما حصل الشعب الأمريكي على استقلاله، ومن دون الإيمان بها ما وضع دستوره ثم أحاطه بهالة تقديس، وما قامت مؤسسات وطنية، وما قامت في النهاية دولة كبيرة اعتبرت الثورة نبراساً لها فتقدمت حتى صارت دولة عظمى. هذه الدولة العظمى، لم ينسها اختيالها بقوتها وعظمتها فضل الثورة عليها، بل العكس ظلت تؤكد وهي في القمة بأنها مدينة بهذه القوة والعظمة للثورة الأمريكية العظيمة. على الناحية الأخرى من الأطلسي وبعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب الثورية الأمريكية اشتعلت الثورة الفرنسية، إحدى أهم الثورات في تاريخ العالم أو لعلها كما يرى الكثيرون تستحق صفة الثورة الأم ومكانتها. لا أحد عارفاً أو عالماً يعيش اليوم، أي بعد 227 عاماً من تاريخ نشوبها، يستطيع الزعم بأنه لم يتأثر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بهذه الثورة، بمبادئها وأهدافها وتداعياتها. كثيرون من حكام العالم الذين وصلوا إلى الحكم بالانتخاب مدينون لهذه الثورة بمناصبهم. وكثير من الأنظمة ما زالت تستعير في وثائقها وأفكارها من مبادئ الثورة الفرنسية. كثيرون، منهم الملايين من أبناء شعب روسيا، قد يترددون اليوم قبل الإشادة بالثورة البلشفية التي نشبت في عام 1917. يترددون لأن نكبات عديدة حلت بمسيرة هذه الثورة أو بسببها، ولأن قادتها بالغوا في فرضها على شعوب روسيا وشعوب أخرى، واستخدموا درجات قصوى من القسوة والقمع.. ولأن ملايين ماتوا في المعتقلات وتعذبوا وهاجروا وهجروا أو تشتتوا.. ولكن لا أحد في روسيا اليوم ينكر أنه في سنوات قلائل تغيرت روسيا القيصرية، تغيرت هياكلها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وانتقلت الدولة من حال مرض وتخلف وفساد إلى دولة لها هيبتها ومكانتها ليس فقط داخل أراضيها وأراضي جوارها، ولكن أيضاً في العالم بأسره، لتصبح القوة العظمى الثانية في نظام دولي ثنائي القطبية. هذه الدولة المريضة تعافت وتصنعت في أقل من ثلاثين عاما، إلى حد أنها استطاعت أن تدخل حرباً عالمية ضد النازية الألمانية وتخرج منتصرة وقادرة على التوسع أرضاً وعقيدة في أوروبا الشرقية وآسيا، ولتعود إمبراطورية أقوى من امبراطورية القياصرة. الثورة البلشفية استعادت لدولة روسيا المنهزمة عسكرياً هيبتها وأقامت إمبراطورية متسعة الأرجاء. أكاد أجزم أنه لا توجد دولة تستحق صفة الدولة ولها هيبتها بين سكانها وسكان دول جوارها والعالم، إلا ومرت بثورة عرفت كيف تحافظ على اسمها ومبادئها وتروج لها جيلاً بعد جيل. ألا تستحق كوبا أن تكون نموذجاً لدولة عرفت كيف تتمسك بثورتها وتحافظ عليها في مواجهة خصم عملاق. الثورات رصيد لا يصح تبديده. هذا الرصيد إن بدد أو امتدت إليه أدوات الحقد والانتقام والجهل لن تعوضه استثمارات أو قروض أو الانضمام إلى أحلاف خارجية. لا شيء يعوض أمة من الأمم عن ثورة تباطأت مسيرتها، سواء تباطأت تحت الإصرار على إنكارها أو تباطأت بسبب شراسة الحرب الناشبة ضدها. opinion@Shorouknews.com

مشاركة :