الإله البابلي 'مردوخ' ورحلته إلى العالم السفلي

  • 2/6/2023
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

تبدأ القصة البابلية "إينوما إيليش" "عندما في الأعالي أو حينما في العلى أو الأعالي" (وهي أول جملة بدأت بها القصة) بالحديث عن أصل الوجود وبداياته:        "عندما في الأعالي لم يكن هنالك سماء وفي الأسفل لم يكن هنالك أرض.. لم يكن سوى آبسو وممو وتعامة يمزجون أمواهم معا" (1) أو كما يصف اللوح الأول من الملحمة لحظات البداية بالتفصيل: "حين السماوات في الأعالي لم تكن قد دعيت بعد.. ولا كان للأرض في الأسافل اسم يطلق عليها، أبسو، الواحد الأول، ومنجبتهم وصانعتهم تيامة، التي ولدتهم جميعا، ومزجت مياههم معا، لكنها لم تشكل المروج، ولا اكتشفت غياض القصب، وحين لم يكن حتى للآلهة التجلي بعد، ولا أسماء أعلنت، ولا أقدار رسمت، عندها ولد الآلهة في داخلهم". (2) وبعد مضي سنينا طويلة وقد ازدادت أعداد الآلهة بشكل كبير جدا، حتى ضج بهم الكون بأفعالهم وحركتهم التي لا تهدأ، عندها قرر الإله "آبسو" أن يقضي عليهم جميعا وبهذا يستطيع أن يشعر بالراحة وأن يتمكن من النوم، لكن الأحفاد عرفوا بطريقة ما بما عزم عليه الإله الجد، فذهبوا إلى الإله "إيا" (3) ليخلصهم من هذه المشكلة وهو المعروف بقوته وشدته، إضافة إلى حكمته ومعرفته، فصنع تعويذة سحرية ألقاها على "آبسو" ليتمكن بعد ذلك من قتله وأخذ مكانه كسلطان جديد في المشهد الإلهي (4) بعد ذلك يولد ابنه الإله "مردوخ" الذي يفوق أباه قوة وبأسا. بعد تلك الأحداث تقرر "تعامة - تيامة - تي آمت" أن تنتقم لزوجها "آبسو" فتحشد جيشا عظيما من الكائنات الغريبة والشريرة للتمرد وإعلان الحرب وعينت الإله "كنكو" قائدا له: (لأنهم أضمروا الشر للآلهة الذين أنجبوهم، تجمهروا واحتشدوا إلى جانب تيامت. كانوا شرسين، يخططون للمكائد بقلق ليل نهار. كانوا يعدون للحرب، يهدرون ويغتاظون) (5) هذه المرة، كان الاختيار على الإله الشاب القوي والجسور "مردوخ" لمقاتلة تيامت وجيشها والقضاء عليها بعد أن طلب الإله "إيا" من ابنه "مردوخ" أن يذهب ويقضي على "تيامت" وبعد أن أعلن الإله الشاب موافقته على ذلك أمام بقية الآلهة، فرحت كثيرا وأعطته قوة الكلمة التي بواسطتها يتمكن من الخلق إذا أراد ومتى ما يريد. قبل الذهاب إلى المعركة جرب الإله الشاب قوة هذه الكلمة فأمر رداء كان أمامه أن يختفي، فاختفى ثم أمره أن يظهر ثانية، فظهر وتأكدت الآلهة حينها من قدرة "مردوخ" على الخلق بواسطة الكلمة، فهو إذا أراد أن يخلق شيئا، يقول له كن فيكون (6) أو في ترجمة أخرى:                            (أقاموا في وسطهم كوكبة من النجوم، ثم خاطبوا ابنهم مردوخ قائلين: فليؤثر قرارك، أيها السيد، في الآلهة! أصدر الأوامر للتدمير ولإعادة الخلق، وليكن كذلك! تكلم ولتغب كوكبة النجوم! كلمها مجددا ودع كوكبة النجوم تظهر من جديد. تكلم، فغابت على الأثر كوكبة النجوم، كلمها ثانية فأعيد خلقها من جديد، وعندما رأى آباؤه الآلهة فعالية كلامه، ابتهجوا وقالوا معلنين: مردوخ هو الملك). (7) إضافة إلى أسلحة أخرى مثل عصا أو قضيب شائك وضعه في يده اليمنى وعربة العاصفة المخيفة البرق وكذلك شبكة كبيرة ليتمكن من خلالها أسر "تيامت" إضافة لتسخيره الرياح الأربعة في خدمته. وكان أحد الأهداف أيضا هو الحصول على لوح الأقدار الموجود لدى "تيامت" أو لدى قائد جيوشها " كنكو" الذي بواسطته يستطيع أن يرسم أقدار الآلهة ثم أوصته، أي الآلهة أن ينقل إليهم الأخبار السارة عندما ينتصر عليها. بعد ذلك التقى الجيشان وتمكن "مردوخ" في قتال فردي مع "تيامت" أن يقتلها ويشقهـا نصفين، رفع النصف الأول فشكل منه السمــاء، وجعل من النصف الثاني أرضا، ثم أكمل عملية الخلق، فخلق النجـوم والشمس والقمر، وبعد ذلك خلق الإنسان من دم الإله "كنكو" بعد قتله. (8) لقد أثرت ملحمة الخلق البابلية (9) في العديد من الأديان الأخرى إلى درجة أن العديد من الباحثين أشار إلى أن قصة التكوين المذكورة في التوراة (10) تكاد تكون نسخة أخرى من القصة البابلية بشكل كامل تقريبا (11). يمكن لنا أن نضع أربعة نقاط أساسية تتألف منها الملحمة البابلية وهي: 1 - إن الحياة قد بدأت في المياه أو من المياه أو على أقل تقدير كانت المياه عنصرا أساسيا في عملية الخلق. 2 - التأكيد على تحول الإنسان من عبادة الإلهة الأم أو الأنثى أو عصر الأمومة إلى الانقلاب الذكوري (12) وذلك من خلال الصراع بين "مردوخ" وما يمثله من ذكورة وقوة وشدة وبين "تيامت" وما تمثله من رمز للأم ولعصر الأمومة الذي انتهى تماما بمقتلها والقضاء عليها. مع ذلك يبدو أن مؤلف هذه الملحمة وبشكل ما، ربما في اللاوعي لديه، جعل من موتها بداية لخلق جديد ومرحلة جديدة من الحياة إذ أن موتها لم يمنعها حسب كاتب الملحمة من أن تؤدي دورها الأخير كآلهة أم وكمصدر للحياة وأن تكون سببا في بداية وخلق جديدان. إن التحول الدراماتيكي في شخصية الإلهة الأم "تيامت" من كونها أم الآلهة وأم الحياة والخلق جميعا في البداية إلى إلهة شريرة ومؤذية، تحارب آلهة الخير ومشبعة بروح الانتقام، لم يمنعها على ما يبدو من أن تؤدي وظيفتها الأخيرة وتقدم حياتها ولو رغما عنها لتساهم في نشأة الكون ومن ثم بداية خلق الإنسان لاحقا.         3 - أصل الإنسان الإلهي أو السماوي، حيث خلق من دم الإله، إضافة إلى أن الهدف الرئيسي من خلقه كان هو أن يقوم الإنسان بخدمة الآلهة. 4 - نهاية الصراع بين آلهة الخير التي تمثل العالم العلوي أو السماوي وبين آلهة الشر التي تمثل عالم الظلام أو العالم السفلي وذلك مع بداية خلق الإنسان.  المصادر والهوامش (1) آبسو هو المياه العذبة أو مياه العمق الصافية وتعامة هي المياه المالحة أو مياه البحر ومن امتزاجهما ولد العديد من الآلهة مثل لخمو ولخامو، إنسار وكيشار وغيرهم الكثير. ويقترح الباحث فراس السواح في كتابه "مغامرة العقل الأولى" ص 52 إلى أن شخصية "ممو" قد تمثل الضباب المنتشر فوق تلك المياه والناشئ عنها، أما أحمد سويلم فيقترح في كتابه "أشهر العقائد الدينية في العالم القديم" ص 63 أن "آبسو" يمثل العنصر الذكري وتيامت أو تعامة تمثل العنصر الأنثوي، في حين يذكر خزعل الماجدي في "الميثولوجيا المندائية" ص 63 أن تيامت هي "أم الحياة" ويضيف في كتابه "إنجيل بابل" ص 16 أن إذا كانت "تيامت" تمثل مياه البحار المالحة و"أبسو" يمثل مياه الأنهار العذب فإن "ممو" الذي يوصف بأنه حاجب أو وزير أو ابن "أبسو" يمثل الضباب الذي يخيم على اختلاطهما وواضح أن هذه الصورة مأخوذة من مصبي دجلة والفرات "آنذاك" في الخليج العربي وربما في الأهوار كما يلمح النص إلى ذلك، بينما يصف جان بوتيرو في كتابه "بابل والكتاب المقدس" ص 173 الإلهة تيامت بأنها أكبر الإلهات وهي أم الآلهة. (2) فراس السواح: الرحمن والشيطان ص28.  (3) ستيفان دالي: أساطير من بلاد ما بين النهرين ص281.                               (4) يذكر خزعل الماجدي في كتابه "الميثولوجيا المندائية" ص 16 أن الإله "إيا" هو نفسه الإله السومري "إنكي" ولكن الناصورائيين أسموه "إيا" وهو الاسم الذي أصبح مرادفا لإنكي السومري من جهة ومعبرا عن إله الماء البابلي - الآموري من جهة أخرى، حيث لم يعد معبرا عن الماء والخلق فحسب، بل أصبح معبرا عن عالم النور الذي كان يقف بمواجهة العالم الأسفل المظلم الذي تناسلت فيه الكواكب وهكذا أصبح "إيا" الذي تحول مع الزمن إلى "أي" ثم "هي" الدال على النور والحياة، خصوصا أن اسمه ترادف مع "آي" أو "آيا" إلهة الشمس وهكذا جمع الحياة والنور تماما، بينما يشير الباحث محمد أبوالمحاسن في كتابه "معالم حضارات الشرق الأدنى القديم" ص 216-217 أن "أيا" أو "إيا" هو سيد الأرض يحكم في مسكن المعرفة أي المياه التي تحمل الأرض وتحيط بها كما كان إلها للحكمة خلق الإنسان من كتلة من الطمى ونفخ فيها نسمة الحياة.                            (5) إن قتل "أيا" لأبيه "أبسو" هي أول إشارة لفكرة قتل الأب التي ستكرر صداها في أساطير الخليقة ونشوء الآلهة، خزعل الماجدي "إنجيل بابل" ص 16.                     (6) ستيفان دالي: أساطير من بلاد ما بين النهرين ص 285.                (7) في النص المندائي نقرأ النص الآتي في "كنزا ربا" يمين الكتاب الأول - التسبيح الأول "قال للملائكة كوني فكانت. بقوله ملائكة النور كانت" وأيضا نص آخر في نفس السياق من الجزء اليمين الكتاب الأول التسبيح الثاني: قال ملك النور السامي قوله، فكان كل شيء. وفي العهد القديم، سفر التكوين 1:3 نقرأ "وقال الله: ليكن نور، فكان نور" وكذلك في القرآن، نقرأ الآية التالية "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون" سورة يس آية 82.                                 (8) أساطير بلاد ما بين النهرين: ستيفان دالي ص297-298.            (9) أنظر: "مغامرة العقل الأولى" فراس السواح، "حضارات الشرق الأدنى القديم" محمد أبوالمحاسن، "بابل والكتاب المقدس" جان باتيرو، "أشهر العقائد الدينية في العالم القديم" أحمد سويلم، "المصنف الوجيز في تاريخ الأديان" فردريك لونوار.                            (10) تذكر الباحثة ستيفان دالي في كتابها "أساطير من بلاد ما بين النهرين" ص 275-277 أنه من الصعب تحديد تأريخ ملحمة الخليقة البابلية، فالألواح التي كتبت عليها تعود في مجملها إلى الألف الأول وتتوالى حتى الحقبة السلوقية حين استخدمها بيروسيس في ملحمته "بابلياكا" ويرجح أن النص الذي يظهر فيه "مردوخ" هو الأول بينما النص الذي يظهر فيه "آشور" هو الثاني، وإذا صح هذا القول فلا يمكن أن يكون قد تم تأليف الملحمة قبل حكم "سمولا- إيلو" (1936-1901 ق. م) وهو حاكم أموري حققت بابل في عهده شهرتها المرموقة وكان "مردوخ" شفيعها الإلهي. وهناك اقتراح بأن التأليف قد تم خلال عهد "حمورابي" (1848-1806 ق.م) ولكننا لا نجد أي تلميحات في الملحمة لشرائع "حمورابي"، اقتراح آخر بأنها كتبت خلال حكم الملك "نبوخذ نصر الأول" (1125-1104 ق.م) فخلاله أعيد تمثال "مردوخ" مرة أخرى من الأسر وأشير إلى "مردوخ" بأنه "ملك الآلهة"، لكن هذا الاقتراح ضعيف جدا لأنه عثر على لوح يحتوي على قائمة بأسماء آلهة، عثر عليها في إحدى العواصم الحيثية في الأناضول تتضمن لائحة بأسماء "مردوخ" الواردة في ملحمة الخليقة في وقت سابق لعهد "نبوخذ نصر الأول".                                (11) إن "التوراة" هو مصطلح باللغة العبرية يطلق جوازا على جميع أسفار العهد القديم، إلا أنه يعني أصلا الأسفار الخمسة الأولى فقط من العهد القديم المؤلف من 93 سفرا وهي الأسفار التي يظن بعض اليهود بأنها بقايا التوراة أي القوانين أو التعاليم التي نزلت على النبي موسى، لذا تسمى هذه الأسفار أحيانا "كتب موسى الخمسة" وباليونانية "بنتياتيك". يرجع أقدم نص مدون من العهد القديم إلى القرنين الأول والثاني قبل الميلاد وهو النص الذي وجد في "أم قرمان" عند ساحل البحر الميت وكانت أول ترجمة للعهد القديم إلى اللغة اليونانية والتي تعرف بالترجمة السبعينية في أواسط القرن الثالث قبل الميلاد وترجع أقدم ترجمة عربية إلى القرن الثامن الميلادي. وكان أول تدوين لأجزاء من أسفار العهد القديم في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد من قبل الأحبار اليهود في بابل في حين كان تأريخ نزول التوراة على موسى في القرن الثالث عشر قبل الميلاد على ما يذهب إليه الباحثون أي أن أسفار العهد القديم دونت بعد نزولها على موسى بأكثر من سبعة قرون. أنظر: عامر سليمان "اللغة الأكدية البابلية – الآشورية" ص 64.                    (12) جورج جيمس فريزر مؤسس المدرسة الأنثروبولوجيا الإنجليزية سنة 1890 ومن خلال دراسته للأساطير البابلية نجده يربط الأسطورة بفكرة خلق الكون وهذا ما يذهب إليه في رؤيته للصراع الذي كان قائما بين "مردوخ وتيامت" والذي يعكس حسب قوله التحول الفصلي لنهر الفرات حيث يقول "إن صراع مردوخ وتيامت ما هو في الأصل إلا تأويلا أسطوريا لفصل الربيع البابلي ولا يأخذ قيمته الكوسموغونية (ما كان مرتبطا ببداية خلق الكون) إلا بعد وقت طويل ويصبح الصراع عبارة عن حكاية الخلق". أنظر: أمين محمد سعيد الطاهر "علاقة الفكر الأسطوري بالبعد الغيبي في الأديان" ص186-187.

مشاركة :