تختلف أعمار الثدييات باختلاف فصائلها، وفي الوقت الذي لا تتجاوز فيه أعمار أنواع الجرذان أو الخلدان 14 شهرًا، نجد أن فصيلة الحيتان مقوسة الرأس تظل تمخر عباب المياه في القطب الشمالي لأكثر من قرنين من الزمان. ولا يرتبط طول عمر الثدييات -في حقيقة الأمر- بأحجامها؛ فالدببة البنية التي تزن 250 رطلًا -على سبيل المثال- لا تزيد أعمارها بأي حال من الأحوال على 40 عامًا، في حين تعيش الخفافيش من فصيلة "برانت"، التي لا تزيد أحجامها عن حجم قبضة يد الإنسان، حتى 41 عامًا. وأزاح العلم النقاب عن عامل آخر قد يفسر أسباب طول أعمار فصائل معينة من الثدييات دون غيرها؛ ألا وهو طبيعة الحياة الاجتماعية لهذه الكائنات، فقد حلل فريق بحثي من الأكاديمية الصينية لعلوم الحيوان، نمط حياة قرابة ألف فصيلة ثديية وأعمارها، وتوصل إلى أن الفصائل التي تعيش في جماعات مثل الأفيال وقردة الليمور، تعيش فترات أطول، مقارنة بالحيوانات التي تعيش فرادى مثل النمور وبعض أنواع السناجب. في إطار الدراسة التي نشرتها الدورية العلمية "نيتشر كوميونيكيشن"، عكف الباحثون على دراسة بعض الحيوانات التي تتميز بأعمارها الطويلة مثل "فأر الخلد العاري"، الذي يعيش حتى 31 عامًا، ومن المعروف أن هذه الفصيلة من الفئران تعيش حياة اجتماعية مركبة؛ إذ ترأس كل جماعة منها "فأر أنثى"، وتضم مجموعة من الفئران الشغالة التي تعيش معًا في شبكة من الأنفاق تحت الأرض. كما توصل فريق الدراسة إلى أن بعض الحيوانات، مثل قردة البابون، يمكن أن تعيش أطول من أقرانها في الفصيلة نفسها، إذا كانت تعيش وسط جماعات أكبر، أو تجمعها روابط اجتماعية أوثق. وبحسب الموقع الإلكتروني الأمريكي "ساينتفيك أمريكان"، المتخصص في الأبحاث العلمية، قام الفريق البحثي بتقسيم 974 فصيلة حيوانية إلى 3 فئات؛ هي: الحيوانات التي تعيش بمفردها، والتي تعيش في زوجين، ثم التي تعيش في جماعات أكبر. وتوصل إلى أنه فيما يتعلق بطول العمر، كلما كان الحيوان يعيش ضمن قطيع، كان أطول عمرًا، وأن الحيوانات التي تعيش في زوجين اثنين مثل قردة الجيبون، تعيش أطول من الحيوانات الفردية مثل خنازير الأرض، والحيوانات التي تعيش في قطعان ضخمة مثل الأفيال، هي الأطول عمرًا بشكل عام. أكد الباحثون أن هذه القاعدة تسري أيضًا عند مقارنة فصائل مختلفة للثدييات من الحجم نفسه؛ فالخلدان الشمالية قصيرة الذنب تزن تقريبًا مثل وزن خفاش الحذوة الكبير، غير أن الخلدان التي تعيش بمفردها لا تتجاوز أعمارها عامين، لكن تلك الخفافيش يمكن أن تصل أعمارها إلى 30 عامًا. ويقول الباحث تشومينج تشو، من الأكاديمية الصينية، إن هناك بعض الاستثناءات لهذه القاعدة، مثل قردة الأورانجوتان "إنسان الغاب" التي تعيش في جزيرة سومطرة بإندونيسيا، فهذه القردة يمكن أن تصل أعمارها إلى 60 عامًا، رغم أنها تعيش وحيدة، كما أن بعض الجرذان مثل الفأر النرويجي وفئران شينشيلا، تتراوح أعمارها بين عامين إلى 4 أعوام في المتوسط، رغم أنها تعيش في جماعات كبيرة. وأغلب الثدييات التي خضعت لهذه الدراسة أثبتت بالفعل أن التواصل مع أبناء الفصيلة والروابط الاجتماعية الوثيقة، يقترنان على الأرجح بطول العمر. من جانبها، تقول برندا برادلي، الباحثة في مجال الأنثروبولوجيا الحيوية بجامعة جورج واشنطن الأمريكية، والمتخصصة في مجال الصفات الوراثية للرئيسيات، إن هذه الدراسة الجديدة تساعد في بلورة الصلة بين طول الأعمار والروابط الاجتماعية. ويرى الباحث تشومينج تشو، أن هذه الظاهرة يمكن أن ترتبط بعملية النشوء والارتقاء لعدة أسباب؛ فالعلماء يعتقدون أن الثدييات التي تعيش في مجموعات تكون أقل عرضة للافتراس أو الموت جوعًا مقارنة بالثدييات التي تعيش بمفردها، ومن ثم فإنها بدلًا من الاندفاع للتكاثر بغرض الحفاظ على النوع، تعيش حياة أهدأ وتستثمر مزيدًا من الوقت في توثيق علاقاتها الاجتماعية التي تستفيد منها في وقت لاحق، لذلك فإن الروابط الاجتماعية القوية والمستقرة بين أفراد الفصيلة الواحدة لها القدرة على إطالة العمر. وفي محاولة لتحديد الجينات التي ربما يكون لها دور في الربط بين طول العمر والعلاقات الاجتماعية لدى الثدييات، قام الفريق البحثي بتشريح 300 عينة من أمخاخ 94 فصيلة ثديية مختلفة، تتراوح أعمارها بين 3 أعوام مثل حيوان الخلد الصيني، وأكثر من 122 عامًا مثل البشر، وقاموا بتجميد هذه العينات بواسطة النيتروجين السائل، وفحصها تحت المجهر بالتفصيل. ونجح الباحثون في تحديد 31 صفة وراثية ترتبط بشكل مشترك بكل من طول العمر والعلاقات الاجتماعية، ويتعلق جميعها بتحسين الاستجابة المناعية وضبط هرمونات الجسم. أثبت العلماء بالفعل أهمية المناعة في الجماعات الأكبر عددًا؛ نظرا إلى أن الطفيليات والميكروبات تتفشى في أوساطها بشكل أسرع، كما أن الهرمونات لها دور مهم في الأنشطة الاجتماعية بين جماعات الثدييات؛ لأنها تعزز عمليات التزاوج وتربية الصغار على سبيل المثال. ويؤكد الباحث دانيال بلومشتاين، المتخصص في مجال العلوم الحيوية بجامعة كاليفورنيا الأمريكية، أن "الشيء الرائع بشأن هذه الدراسة ليس الجينات الخاصة بالمناعة فقط؛ بل الجينات التي تفسر العلاقات الاجتماعية بين الثدييات". ويرى بلومشتاين أن الاستمرار في إزاحة النقاب عن الآليات الوراثية التي تربط بين طول العمر والروابط الاجتماعية، سوف تساعد العلماء في فهم كيفية تطور هذه الصفات الوراثية لدى الخفافيش والحيتان، وجميع الثدييات التي تتباين في أحجامها وأعمارها بين هاتين الفصيلتين.
مشاركة :