ربما ستمر عقود قبل أن تنجب لنا السينما السعودية رجلا ذا مدرسة ورؤية خاصة، تحمل عنوان "سينما الرسالة الفكرية"، أسس لها قبل نحو خمسة عقود المخرج عبدالله المحيسن. يمشي المحيسن على الحكمة القائلة، "كن ممتعا وأنت تقول الحقيقة"، ليخرج أفلاما تشكل دهشة بصرية وفنية، في طياتها تحمل مواقف ومبادئ، وقصصا تستحق أن تروى. تجربة ملهمة الإثنين الماضي، في حفل افتتاح مهرجان «العين السينمائي الدولي» في دورته الخامسة، كرم الشيخ سلطان بن طحنون آل نهيان رئيس مجلس إدارة مكتب فخر الوطن، المخرج السعودي عبدالله المحيسن، مع نخبة من صناع السينما الذين لديهم بصمة في تاريخ الفن العربي، ضمن برنامج «إنجازات الفنانين»، احتفاء بمسيرتهم الحافلة بعديد من الإنجازات للارتقاء بالفن السابع. الإخراج السينمائي مغامرة، ولا سيما في بدايات السينما السعودية، التي تولى فيها المحيسن إخراج عدد من الأفلام، متسلحا بحبه وشغفه بالفن منذ سن مبكرة، فبعد إنهاء تعليمه الأولي في المملكة توجه إلى بيروت لدراسة المرحلة الثانوية، ثم انتقل بعدها إلى المملكة المتحدة لدراسة التصوير، ليتابع بعدها ويدرس في الأكاديمية الملكية البريطانية للتلفزيون، ثم دخل عالم الإخراج والتصوير والسيناريو السينمائي في مدرسة لندن للفيلم، وحصل على الدبلوم العالي في الإخراج السينمائي، في السبعينيات الميلادية. حينما نستعرض حياة عبدالله المحيسن من أولها إلى آخرها، تبدو مليئة بالمحطات المميزة، التي روى جزءا من معالمها في حديث لـ"الاقتصادية" قبيل تكريمه، وكشف أنه فضل العودة إلى بلاده لتأسيس شركة للإنتاج السينمائي، عمل بعدها على عدد من المشاريع الوطنية، منها جمع وتوثيق التراث المحلي بالصوت والصورة. صاحب فكرة الإنتاج المشترك كان عبدالله المحيسن مخرجا استثنائيا بأكثر من معنى للكلمة، ومنتجا يهتم بالرسالة الفكرية للعمل قبل كل شيء، ومن لا يذكر برنامج "سلامتك" الشهير الذي كان يبث أسبوعيا على مدار العام، ويحارب في حلقاته الجهل الصحي ليرسخ مفاهيم صحية ووقائية، كما شارك في إنتاجات تلفزيونية أسست في محصلتها لفكر إنتاجي تلفزيوني سعودي، منها مسلسل "اللهم إني صائم"، و"رمضان والناس" منتصف السبعينيات، ومن خلالهما اضطلع بفكرة للإنتاج التلفزيوني المشترك مع مصر، كحل عملي لتخفيض تكاليف الإنتاج. وفي مسيرة المحيسن محطات أساسية، لعل منها السهرات التلفزيونية "صديق من الرياض" و"حتى لا يذبل الورد"، ونحو 35 فيلما للرسوم المتحركة، منها "بادي وسعيد". رؤيته في أفلام ينتج المحيسن أفلاما تحمل وجهة نظره كمخرج حيال القضايا الإنسانية المعاصرة، ولا سيما قضايا العالم العربية والإسلامي، وقد تجاوز ما أنتجه أو أشرف على إنتاجه نحو 212 فيلما، بدأها بفيلم "تطور مدينة الرياض" في 1976، وحصد إثره شهادة تقدير خاصة من منظمة الأمم المتحدة تقديرا للأسلوب السينمائي المتميز الذي انتهجه في إخراجه، ويعد وثيقة فنية تحكي قصة تطور العاصمة في عقود قليلة، زاوج فيها بين الأصالة والمعاصرة بين المادة والإنسان. وتزهو الذاكرة السينمائية السعودية بمجموعة من أفلام عبدالله المحيسن، ولعل من أهمها فيلم "اغتيال مدينة"، الذي يجسد المحنة التي أصابت لبنان وحولت بيروت إلى خراب ودمار، من إنتاج 1977. ويتناول الفيلم حرب لبنان في بداياتها، بعيدا عن إثارة النعرات الطائفية أو الأيديولوجية، ونقلت عدسة المحيسن مشاهد حية وصورا من قلب الأحداث إبان اشتعال الحرب، ما منحه قيمة توثيقية مهمة، وفقا لكتاب "فيلموجرافيا الأفلام السعودية" لمؤلفه خالد ربيع السيد، الذي يوثق مراحل السينما السعودية، فمن خلال هذا الفيلم ولدت السينما السعودية على يد أول سينمائي سعودي، ومؤسس أول استوديو تصوير سينمائي في المملكة. وبحسب نقاد، فإن الفيلم من أفضل الأفلام التي سجلت أبعاد الحرب الأهلية اللبنانية وآثارها، برؤية فنان يرفض العنف والحروب مهما كانت أسبابها، وحصل على جائزة نفرتيتي لأحسن فيلم قصير في مهرجان القاهرة السينمائي الثاني، وجائزة من مهرجان الخليج الأول للإنتاج التلفزيوني. وفي مقابلة تلفزيونية، ذكر المحيسن أن الملك فهد بكى بعدما شاهد فيلم "اغتيال مدينة"، بحضور الملك سلمان، فأجازه وقال له بأن يعرضه أينما يريد. أسلوب جديد في الإخراج الفيلم الثاني المميز في مسيرة المحيسن كان "الإسلام جسر المستقبل"، إنتاج 1982، وخلال 50 دقيقة سجل بموضوعية صورة واقعية لحال العالم الإسلامي في نهاية القرن الـ20، مدعما بـ900 لقطة سينمائية بالوثائق العالمية عن أهم القضايا التي أوصلت الأمة الإسلامية إلى حالها اليوم، ويحمل نداء بالتضامن ولم الشمل. ويمزج الفيلم بين الفقر والمرض والجوع، وإنتاج الأسحة النووية، في صور متداخلة تقدم محن العالم الإسلامي، وتهدد بتكرار التجربة إذا أصروا على التفكك والفردية الحالية، وحصل الفيلم على جائزة من مهرجان القاهرة، كونه يقدم أسلوبا جديدا في الإخراج للسينما العربية، حيث أنتجت مشاهده وفق ثيمة الإسقاط التاريخي على الأوضاع في ذلك الوقت. وحصد الفيلم الجائزة الذهبية في مهرجان القاهرة، ويتطرق إلى مجموعة من المواقف التاريخية، منها دعوة الملك فيصل إلى وحدة الصف، وانعقاد أول مؤتمر إسلامي، وحروب المنطقة، وينتقل بنا إلى الأندلس ومساهمتها في بناء الحضارة، كما يرصد التحديات التي واجهت الأمة، من أبرزها احتلال القدس قبل ألف عام، وجنكيز خان وحفيده هولاكو، وسقوط بغداد، ثم حملة نابليون على مصر، إلى اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور. أفلام في الذاكرة يصنف عبدالله المحيسن فيلمه "الصدمة" بأنه من أفضل الأعمال السينمائية التي قدمها في مسيرته، متجاوزا المفهوم التسجيلي أو الوثائقي إلى مفهوم أوسع وأرحب، رغم أن وسيلته كانت الوثائق والأحداث والمشاهد الحية المفزعة خلال أزمة غزو الكويت. علق صوتيا في الفيلم الفنان المصري الراحل محمود ياسين، ويدعو إلى استخلاص العبرة مما حدث للأمة العربية، والبحث عن المسببات الحقيقية والدوافع الكامنة التي أدت إلى الغزو وبعثرة طاقات وجهود الأمة العربية وثرواتها، في فيلم لا يسعى إلى إدانة شخص أو جماعة أو دولة، وإنما يطالب بالبحث والتفكير فيما يجب عمله تجاه ما حدث، وضمان عدم تكراره. ومن الصدمة إلى "ظلال الصمت"، وهو فيلم روائي طويل إنتاج 2006، ويناقش أزمة الإنسان العربي وعجزه أمام تراكمات الماضي ووطأة الحاضر، ورعبه من المستقبل المجهول، ويعرض الفيلم نظاما افتراضيا متسلطا يقوم بإنشاء "معهد" منعزل في قلب الصحراء، ويبدو ظاهريا أن هذا المركز للعلاج بالتنويم وأساليب التأهيل العلمية لتنمية القدرة على التحكم في النفس، بينما تزاول فيه - في الحقيقة - عمليات التخدير وغسل الأدمغة لتدمير الكفاءات الخارجة عليه. وشارك في الفيلم نخبة من الممثلين العرب، مثل عبدالمحسن النمر ونايف خلف، ومحمد المنصور من الكويت، وغسان مسعود، ومنى واصف، وفرح بسيسو و400 مشارك آخر، والموسيقى التصويرية للموسيقار اللبناني زياد الرحباني، وتم تصوير العمل في تدمر السورية، ونال عنه المخرج جائزة مفتاح المدينة في مهرجان نانت، لتسهم هذه الأفلام والمسلسلات والإنتاجات الفريدة في تكوين هوية السينما السعودية، التي تطمح إلى انتزاع مكانة على الخريطة الإقليمية والعالمية.
مشاركة :