"حرب في أوكرانيا، ووباء ما زالت آثاره تقوض دعائم النمو الاقتصادي العالمي، اختلالات في هياكل إنتاج وتوزيع الطاقة في أوروبا، تضخم يقود لحرب بنوك مركزية، مخاوف عالمية من الركود، اختلالات عنيفة في سلاسل التوريد، صراعات اقتصادية بين أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم....". كافة هذه العوامل السابقة –وغيرها الكثير- ذات تأثير مباشر وغير مباشر على قرارات الاستثمار، وذلك مع المتغيرات الأخرى المتعلقة بسعر السهم والبيانات المالية التي تصدرها الشركات التي ينوي المستثمر ضخ أمواله فيها، ومع تزايد العوامل المؤثرة بهذا الشكل يثار التساؤل عن قدرة المستثمرين الصغار على تحقيق النجاح في الأسواق وعما إذا كانت الطبيعة المعقدة لعالمنا المعاصر تعطي للمستثمرين الكبار ميزة نسبية. في "منطقة الراحة" تشير دراسة أمريكية إلى أن "ضغط المعلومات"، وخاصة إذا كانت كثيرة وأحيانًا متضاربة يكون على المستثمر الصغير أكبر بكثير بالمقارنة مع المستثمرين الكبار أو على الصناديق الاستثمارية، خاصة مع الضغوط التي يشعر بها المستثمر الصغير بضرورة حصوله على عائد كبير من استثماراته يضاهي "المخاطرة" في سوق الأسهم قياسًا بأنواع أخرى من الاستثمار. وعلى ذلك فإن قرابة 94% من صغار المستثمرين لا يمكنهم التفرقة بين المعلومات الهامة وتلك الفرعية غير المهمة، ومع سيل المعلومات والبيانات والمؤثرات الجزئية والكلية على قرار شراء الأسهم فإن كثيرين قد يندفعون في قرارات استثمارية خاطئة بسبب العجز عن التفرقة بين ما هو مهم والمتغيرات غير ذات الصلة بقرار الاستثمار. بل ويشير 40% من المستثمرين الصغار في السوق الأمريكي على سبيل المثال إلى أنهم يضطرون إلى اتخاذ قرارات بناء فقط على اتجاه السوق أو أحد الأسهم في الوقت الحالي، وهو ما يكاد يكون اعترافا بأنهم "يسيرون مع القطيع" سواء في البيع أو الشراء، وذلك دون القيام بتحليل واف للمتغيرات الكلية والجزئية. كما تدفع كثرة البيانات المالية والمتغيرات المحلية والعالمية المستثمر الصغير العاجز عن التحليل إلى اللجوء إلى ما يعرف بـ"منطقة الراحة"، حيث يفيد 90% من المتداولين بأنهم غالبا ما يتجنبون الاستثمار في أسهم جديدة بعد معرفتهم بعدد معين في فترتهم الأولى للتداول. وبناء على ذلك، إذا قرر متداول ما توزيع محفظته بين 5 أسهم في أول دخول له للسوق، بناء على دراسة قام بها (ليس بالضرورة بشكل ملائم) أو على نصيحة صديق أو سمسار أو صفحة على وسائل التواصل الاجتماعي، وربح في 3 أسهم وخسر في اثنين فإنه يظل يستثمر في الأسهم الثلاثة الرابحة سابقًا ويتجنب الأخرى الخاسرة، حتى مع أنه في سوق الأسهم لا يوجد رابح دائم ولا خاسر للأبد. عملاق منافس والشاهد أنه في وجود برامج الذكاء الاصطناعي أصبحت المنافسة في سوق الأسهم غير متوازنة بالمرة، حيث إن برنامج مثل "علاء الدين" المملوك لشركة إدارة الأصول العملاقة "بلاك روك" "يتعلم" منذ 1988، أي أنه نشط في السوق منذ 35 عامًا. ووصل الأمر إلى حد قيام "علاء الدين" خلال السنوات الأخيرة بـ70% من عمليات التداول بدون أي تدخل بشري، ومع إدارة الذكاء الاصطناعي العملاق لأصول تتجاوز 21 تريليون دولار فإن القدرة على تحريك الأصول سواء في سوق الأسهم أو خارجها تكون استثنائية. ومع تعاظم دور الذكاء الاصطناعي في الوقت الحالي، وظهور نماذج متقدمة للغاية وزيادة القدرة على التحليل وتخزين البيانات تشير بعض التقديرات إلى أن أكثر من 60-70% من عمليات التداول ستتم عبر برامج الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030، سواء بشكل مباشر أي دون أي تدخل بشري أو غير مباشر أي بتقديم توصيات للمتداولين لاتخاذ القرار. ومع زيادة تعقيد عالم اليوم الاستثماري بشكل كبير، وزيادة التأثيرات الجيوسياسية والبيئية والاقتصادية والمالية بل والاجتماعية والنفسية، فإن قدرات الكيانات الكبرى التي تمتلك خبرات في مجال الذكاء الاصطناعي، ستصبح متعاظمة بشدة، لا سيما في مواجهة المستثمرين الأقل قدرة وخبرة. ووصل الأمر إلى حد أن يقول "أنتوني مالوي" وهو مدير مجموعة "نيويورك لايف إينفيستورز"، والتي تدير أصولًا تقترب من ربع تريليون دولار، "إن علاء الدين يشبه الأكسجين بالنسبة للعديد من الشركات الاستثمارية، في وقتنا الحالي فإنه لا يوجد شركة استثمارية كبيرة يمكنها البقاء بدون استخدام علاء الدين". الاستثمار في "كل الشركات" واللافت هنا أن كبار المستثمرين يتمتعون بقدرة كبيرة على تحليل البيانات المالية والاقتصادية، بما يجعلهم يستثمرون في كافة أنواع الشركات، سواء الصغرى أو الكبرى. ففي السوق الأمريكي على سبيل المثال يتم اعتبار تلك الشركات التي تتجاوز قيمتها السوقية –لفترات طويلة- 10 مليارات دولار بمثابة شركات كبرى (تعرف بالـ"blue – chip" أو الأسهم الزرقاء) وتعتبر بشكل عام أكثر أمانًا للاستثمار بسبب استقرارها النسبي في السوق، لكن تقلباتها تكون أكثر ضررًا للمستثمر لأنها غير متوقعة. وفي المقابل فإن الشركات بين 250 مليون دولار إلى ملياري دولار تعتبر شركات صغيرة ومهددة بالتقلب بصورة أكبر، والشركات بين مليارين إلى 10 مليارات دولار تعتبر شركات متوسطة، أما الشركات دون 250 مليون دولار فهي الشركات متناهية الصغر "ميكرو". والملاحظ هنا أن المستثمرين الكبار ينوعون استثماراتهم بين الشركات الصغيرة وحتى "الميكرو"، التي تعتبر عالية المخاطرة ولكنها عالية الربحية أيضًا بسبب آفاق النمو السريع لتلك الشركات، والشركات الأكثر استقرارًا، ومن ذلك أن "علاء الدين" ينوع استثماراته بين 80% تقريبا كاستثمار منخفض أو متوسط المخاطرة و20% كاستثمار عالي المخاطرة. منطق الرهانات وفي المقابل يميل الكثير من المستثمرين الأصغر إلى التعامل مع الاستثمار أو المضاربة في سوق الأسهم كما لو كان "رهانًا" قد يصيب أو يخطئ، بينما تجذب آخرين الأسماء الرنانة حتى أن أكثر من 35% من المتعاملين يميلون إلى التداول على أسهم شركات تعجبهم المنتجات التي تقدمها بشكل شخصي. ولذلك فإن الأغلبية الكاسحة من نسبة 90% من المتداولين الذين يخسرون أموالهم في أسواق الأسهم يكونون من صغار المستثمرين، وذلك بسبب عدم التكافؤ في القدرة على تحليل مختلف المتغيرات في السوق سواء كانت عامة متعلقة بالاقتصاد والمال أم خاصة متعلقة بالشركة التي ينوي المستثمر شراء أسهمها. والشاهد أن قدرة المستثمر الصغير، لا سيما إذا لم يكن متفرغًا فحسب للتداول، لا تضاهي أبدًا قدرات الذكاء الاصطناعي من جهة، ولا الشركات الكبرى التي تمتلك أعدادًا من المحللين الذين يعملون على تحليل واسع لمختلف متغيرات السوق وشركاته بما يسمح لهم بانتهاز الفرص الاستثمارية الأفضل في ظل رؤية أكثر شمولًا. وعلى ذلك يكون المطلوب من المستثمر الأصغر التركيز الشديد على عدد معين من الشركات بقراءة كافة المتغيرات الاقتصادية والمالية، ودراسة بيانات الشركة، والأهم وفقًا لنصيحة الخبراء أن يبحث دومًا عن وجود "فجوة" في السوق، وهي التي أدت في الفترة الماضية إلى ارتفاع أسهم الكثير من شركات الطاقة بسبب الاختلالات الناتجة عن الحرب الأوكرانية والعقوبات على روسيا.
مشاركة :