انطلقت الفنانة المصرية أماني فهمي من الضوابط الأكاديمية والعلمية لتثبت حضورها في الفن التشكيلي المصري، موظفة شغفها بالمناظر الطبيعية، وبالثنائيات المتضادة كالنور والعتمة لتعبر عن علاقة سرمدية بين الإنسان ومحيطه، وثنائية الموت والحياة المتواترة، مؤمنة بحرية الفنان في اختيار أسلوبه أو ممارسة فنه بالطريقة التي ترضيه هو أولا. الذائقة الموسيقية الرفيعة التي تمتلكها الفنانة المصرية فهمي لا بد أن تنعكس في أعمالها الفنية كانسجام راق وتوازن محكم لكل مفردات لوحاتها، خصوصا مجموعاتها الأخيرة من الأعمال التجريدية. اليد ترسم والقلب يفكر في آن، خطوط سريعة ومتقطعة، مساحات فارغة كصمت الموسيقى المفاجئ في لحظة ما قبل عودتها من جديد، كولاج مكتوب من بقايا قصائد، نور وعتمة، تضاد منتشر في تناسق كأنه أصوات طبول وقيثارات للحن يبدأ ولا ينتهي لموسيقى الوجود. تراجم وافتتان بأصوات داخلية ونغماتها التي نشعر بها ولا ندركها إلا في أعمال فنية رفيعة. وإضافة إلى هذا كله تعد الفنانة المصرية جزءا أصيلا من العملية الإبداعية في فن الرسم بالحركة التشكيلية المصرية لموهبتها أولا ولتخصصها الأكاديمي ثانيا، فهي حاصلة على بكالوريوس في كلية الفنون الجميلة قسم تصوير جامعة حلوان 1990، وماجستير في التصوير 1996، ودكتوراه 2002 وتعمل مدرسة بقسم التصوير كلية الفنون الجميلة جامعة حلوان. اقتراب من الطبيعة بوكس تلجأ فهمي إلى استعمال أرضية من المواد المختلفة كالرمال والصمغ والكولاج (القص واللصق) لمحاولة الاقتراب من ملامس حقيقية موجودة في الطبيعة كالأسطح الجيرية والمباني العتيقة والأرصفة الحجرية المتراصة في توليفات فنية أنيقة، وأخرى مربعات في مثلث هرمي وتقسيمات صارمة وأسطح قوارب الصيد المركونة والعديد من المفردات التي يمكن أن تترجم إلى أعمال فنية بأكثر اختزال وتلخيص في أعمالها الفنية الحديثة واقترابها من مدارس اللاشكل التجريدية بنكهة خاصة يغلب عليها الأبيض والأسود كفكرة وميض الضوء وإحساس موسيقي منسجم يصدح في أرجاء أعمالها الفنية وتضاد يعمل على خلق توازن جمالي ما. بالإضافة إلى ذلك تستخدم الفنانة ألوان الطين والحجر والتراب، ومكونات الأرض والإنسان التي غلبت على معظم أعمالها في مراحلها الجديدة هي مناخات تستدعي بل تشي بعلاقة سرمدية مليئة بمشاعر إنسانية وعلاقتها بالوجود. مشاهد الأرض والسماء أصبحت تقترب إلى ملامس السطوح الخشنة والأرضيات ذات النتوءات والحفر مع ظلال من سواد والقليل من بقع الألوان المضيئة من الأحمر والأصفر والذهبي ويحيطها الكثير من الألوان الترابية والكولاج يظهر على استحياء من حين إلى آخر حسب الحاجة الفنية وضرورتها. فالأزرق مازال متعانقا مع سمائه والأصفر يحبو بكل خفة مع أفقه مترامي الأطراف في اتساع الأمكنة التي نعيشها في كل يوم. وعند الحديث عن هذا النوع من الأعمال وخصوصا في المناطق التجريدية التي تستعين بالمواد المختلفة والبناء بالتراكم من طبقات الألوان والمعاجين الأخرى، يجب استدعاء عوالم التشكيلي أنتوني تابيس (1923 – 2012) الفنان الإسباني التجريدي الرائد في معالجاته المبتكرة من تراكم الألوان وطبقات الحص لصناعة أبعاد زمنية أخرى في اللوحة مع الحز والقطع والخربشات والخدوش واللصق بالكولاج لتكوين عوالمه الخاصة وجمالياته التي اعتبرها العالم اكتشافه الأول بعد الحرب العالمية الأولى، ومدى نجاح هذه المعالجات في تحريك المشاعر وإثارة الذائقة الجمالية واستدعاء الكثير من الأفكار والقصص والحكايات التي ترتبط بكل هذه العلامات والإشارات مع التلوين والرسم في صناعة عالم متخيل ليس موجودا إلا في أذهاننا نحس به ولا ندركه إلا من خلال أعمال فنية نجح الفنان في إدراك كيفية صياغتها بشكلها النهائي وتقريب صورتها في الواقع المعاش لتبدو أكثر واقعية وألفة. تجاوز للتفاصيل الأرض حاضرة بألوانها في لوحة أماني فهمي الأرض حاضرة بألوانها في لوحة أماني فهمي وتقترب تجربة الفنانة فهمي من مناخات المدرسة الغنائية التجريدية التي كانت قد تشكلت ملامحها بعد الحرب العالمية الثانية ومبررات وجودها المشاعر المرعبة ومشاعر الخوف والحذر التي خلفتها الحروب بين البشر نتيجة أكبر موجات القتل والدمار في العالم، وخصوصا في أوروبا حيث مات الملايين من البشر وشرد عشرات الملايين وسقطت حكومات وأوطان وتغيرت خارطة العالم ورسمت من جديد. كما تقترب مما يعيشه العالم بأسره في وقتنا الراهن حيث تضاءل الكون بفعل تقنية الاتصالات الحديثة وكذلك الإحساس الوجودي الغامض الذي يتملك كل مبدع والذي تصفه في كتابتها عن تجربتها بـ”بوابات إلى المجهول، تثير المخاوف والفضول وتتحدى قوانين الفيزياء المحدودة بالزمان والمكان”، ورائد هذه المدرسة الفنان الفرنسي جورج ماتيو (1921- 2012) في تزامن مع مدرسة نيويورك التعبيرية التجريدية والتي كان دي كونغ ورتكو وبولك من رموزها والتي كانت تبتعد أكثر عن التمهل وتعتمد على الانفعال الكبير أثناء العمل. كانت فهمي قد بدأت تجربتها الفنية من الواقعية والتدريب على رسم أكاديمي منضبط بمقاييس الكليات الفنية الحديثة والتي تعتمد على النقل الواقعي من الموديل الحي ورسم الطبيعة الصامتة والاجتهاد في رسم الواقع المحيط بأدق التفاصيل، مع فهم واستيعاب للخامات والتقنيات التي يستعملها كل فنان في بناء عمله الفني من تجهيز اللوحة وفق شروط التكوين الفني وطريقة العرض والتأطير، رغم أن هناك ملامح في رسمها تؤكد أن الفنانة المصرية تتجاوز التفاصيل حتى في الرسم الواقعي لتكوينها النفسي في الاختصار والتجريد في أي عمل فني متضمن خلاصة تشكيلية عالية من حيث التلوين والرسم. تجربة الفنانة المصرية تبقى في مناطق الفن الحديث رغم اطلاعها على ما تم إنتاجه على الساحة العالمية والمصرية وتعتمد الفنانة على الانفعال في وقته أي أثناء الرسم وليس تجهيزا مسبقا من اسكتش، لأن في أسلوبها هذا جزءا كبيرا من العمل يعتمد على الانفعال اللحظي السريع والارتجال، من سرعة أداء الفرشة بضربات سريعة وواثقة وتداعيات للأفكار في حينها، فالفكرة تكتمل أثناء العمل كأنه التفكير بالرسم. وتبقى تجربة الفنانة المصرية الفنية في مناطق الفن الحديث رغم اطلاعها على ما تم إنتاجه على الساحة العالمية والمصرية، فهي عندها رؤيتها الخاصة في التعبير والرسم بأنفاس مصرية شرقية في مناطقها الخاصة والتي تعتبرها أبلغ طريقة للتعبير عن رؤيتها التشكيلية حتى وإن أصبح هذا الفن من ضمن الفنون التقليدية القديمة في نظر الكثير من الفنانين والنقاد كما تصفها في إحدى المقابلات معها. وفي حوار معها تقول ردا على سؤال تداخل الفنون وتلاشي الحدود بينها “فكرة التجاوز النوعي أصبحت ضرورة إنسانية وتوجها ثقافيا ما بعد حداثي ذكي ومثمر في أغلب الأحوال، وهي فكرة موجودة بالفعل في حركة الفن المصري، وكثير من الفنانين التشكيليين المصريين حققوا فكرة المزج بنجاح، كاتجاه عالمي يلغي الفواصل ويقرب الحدود بين أنواع الفنون، نراه متجسدا في فنون الأداء وفي عروض المسرح التجريبي، حيث يستخدم المتلقي كافة حواسه لاستيعاب ما يقدم من شكل فني، لم يعد هناك فصل بين القالب الحسي للفن ومضمونه الرمزي أو التعبيري أو حتى الجمالي، اندمجت المادة والشكل والتعبير في الفنون المعاصرة وانصهرت في تنظيماتها التي تجبر الحـواس جميعا على الاتحاد معا من أجل بلوغ الشعور الكامل بالفن”. وفي نفس الحوار عن أعمال الأكاديميين وأعمال الفنانين الشباب المتحررين من قيود الأكاديمية، تقول الفنانة “أؤمن بحرية الفنان في اختيار أسلوبه أو ممارسة فنه بالطريقة التي ترضيه هو أولا، وكما ذكرت من قبل أن عصرنا الحالي يتسم بالتنوع ويحتمل الاختلاف، بل أننا نرى من وقت لآخر عودة لأساليب قديمة، كنا نحسبها انتهت منذ زمن، ولكن جمال الفن في عدم انتهائه فهو كالطاقة لا يفنى، ويجب ألا تحارب الأجيال بعضها البعض رغبة في إثبات الوجود، فالتنوع مطلوب، والاختلاف ظاهرة صحية”. رؤية واضحة تقنيات مجتمعة في لوحة واحدة تقنيات مجتمعة في لوحة واحدة الفنانة أماني بالإضافة إلى العمل الإبداعي في مجال الرسم والتدريس الأكاديمي تكتب النقد الفني التشكيلي والموسيقي وتتميز في كتاباتها عن موسيقى الروك أند رول والتي تحتاج إلى خبرة استثنائية وذائقة أخرى للإحاطة بهذا النوع من الفنون والكتابة عنه، فكانت لها العديد من المقالات في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية منذ سنوات مضت. وهذه بعض من كتاباتها التي توضح فيها تجربتها التشكيلية، حيث تقول “ذلك الكون، وما ينطوي عليه من خفايا هو واحد من أكثر الموضوعات الملهمة بالنسبة إلي، خاصة وأني كنت ومازلت شغوفة برسم المناظر الطبيعية المنفتحة على بانوراما المشهد المتسع، فللسماء عشق خاص وفي النظر إليها وتأمل موسيقى التشكّلات السحابية اللانهائية دروس في الفن والجمال، ومن السماء إلى الأرض، مكامن بنية الطبيعة”. وتضيف “كان للثنائيات التضادية المعنى الأهم كحقيقة أزلية وأيضا كمضمون بصري وجمالي في رؤيتي مؤخرا، حيث الأبيض والأسود.. ومنها نشأت إرهاصات أولية للاقتراب من طبيعة الطين والحجر والتراب. مكونات الأرض والإنسان؛ ففي تراب الأرض أسرار تشي بعلاقة سرمدية تربط الحياة بالموت، فكل حياة يكمن الموت في جوفها، وكل موت تنبع منه حياة”. وتوضح “وجدت ضالتي داخل ثنايا تلك العلاقة، ففيها تعزية للنفس ومرتبة وجدانية نافذة إلى ما وراء ظاهرة الرحيل والانتقال إلى عالم خفيّ، كانت بالنسبة إلي مراثي فتحت أبوابا إلى آفاق ومعاني الوجود والعدم وما تذروه الرياح من بقايا ورفات؛ أديم الأرض وتجاويفها.. أشلاء هشة كالزغب في خفته، إنه التلاشي”. وتجدر الإشارة إلى أن الفنانة فهمي من مواليد القاهرة وهي أستاذة التصوير بكلية الفنون الجميلة في جامعة حلوان. قدمت 9 معارض فردية منذ عام 1996 وشاركت بأعمالها الفنية منذ التخرج عام 1990 في معارض مصرية. كما أن لها مشاركات في العديد من دورات المعرض العام وصالون الشباب ومعارض القطع الصغيرة. قامت الفنانة بالتدريس كأستاذ مشارك بكلية التصاميم والفنون جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن بالرياض من 2015 إلى 2018. وهي عضو في نقابة الفنانين التشكيليين المصريين وعضو في الجمعية العلمية السعودية للفن والتصميم في الرياض. ولها مقتنيات في متحف الفن المصري الحديث بالجزيرة ووزارة الثقافة وجامعة حلوان ومتحف كلية الفنون الجميلة بالزمالك ولدى أفراد في مصر وفرنسا ولبنان والسعودية والكويت.
مشاركة :